البحارنة وإحياء ذكرى وفاة مريم
يحيي البحارنة من سكان جزيرة أوال في كل عام ذكرى وفاة
السيدة مريم بنت عمران عليها السلام ويخصصون لها يوم الخامس والعشرين من شهر صفر
فتفتح المآتم الرجالية والنسائية على حد سواء لتقرأ فيها وفاتها .
أما مآتم النساء فيقرأون من كتاب النسخة خبر وفاتها وبعض
هذه النسخ من كتب مخطوطة متداولة منذ مئات السنين ، ثم يقرأون أبيات معدة خصيصاً
لهذه المناسبة تذكر شيئاً من مناقبها وطريقة وفاتها وحزن نبي الله عيسى عليه وعلى
نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام وبعض القصائد تقارن بينها وبين السيدة فاطمة
الزهراء صلوات الله عليها ، وقدد تفننت الكثير من شاعرات المآتم النسائية بسرد مراثي هذه السيدة ، كما كانت
العادة المتبعة في هذه المآتم النسوية أن يقوموا بتوزيع بعض الأطعمة مع البقول
والخضروات في إشارة للزهد الذي كانت تعيشه هذه المرأة في حياتها هي وابنها المسيح
عليهما السلام
وبالنسبة للمآتم الرجالية فإنهم قديماً يقرأون من كتاب (
النسخة ) وهو كراس عُد خصيصاً لهذه المناسبة يجمع بعض أخبارها من خلال الكتب
والمصادر الإسلامية التي تحدثت عن شخصية مريم ثم يختمون بأبيات رثائية لها .
وبالنسبة للشعراء الرجال فلم يكتبوا عنها إلا القليل منهم مثل المرحوم الملا محمد
علي الناصري والمرحوم ملا عبد الرسول السهلاوي بينما تخلو دواوين عميد شعراء
المنبر ملا عطية الجمري من أي رثاء لها .
على مستوى التأليف حول وفاة السيدة مريم فهناك كتيب قليل
الأوراق متداول بين المآتم وتمت طباعته في البحرين مرات عديدة يذكر خبر وفاتها وفي
بدايته نقل من كتاب البحار وفيه خبر عن كعب الأحبار أو وهب بن منبه وهو مجهول
الكاتب ، وقد ذكر الشيخ علي البلادي صاحب أنوار البدرين إن للشيخ محمد بن أحمد
المقابي البحراني كتاب بإسم ( وفاة مريم ابنة عمران ) ولا أعلم هل هو نفس هذا
المتداول الذي يخلو من اسم المؤلف أم غيره والله العالم .
إن الإهتمام بشخصية كشخصية مريم عليها السلام لاشك أنه
راجح شرعاً خصوصاً وأن القرآن الكريم قد اهتم بها وخصص لها سورة كاملة بإسمها وذكر
فضلها واصطفائها ومقامها عند الله تعالى وكذلك كان ذكر ولادتها وجزء من أحوالها في
سورة آل عمران مما ينبئ عن مكانتها عند الله وأما الأحاديث النبوية فقد تكلمت عنها
وجعلتها من خيرة نساء الأرض وهذا لا غبار عليه .
إنما الكلام حول سبب إهتمام أهل البحرين وأوال بهذه
المناسبة وإحيائها على وجه الخصوص فقد ذكرت له عدة توجيهات منها :-
1-
أن البحارنة كانوا يحيون المجالس الدينية طوال العام
ولذلك فكانوا يبحثون عن المناسبات المهملة والتي قل أن تذكر فيقيمون لها شعائر
ووزنا وربما قاموا بوضعها ضمن سلسلة النذور ودرجوا عليها ومنها وفاة آدم ووفاة
حواء ومقتل زكريا (ع) إلا أنها اندثرت وما تبقى من هذه المناسبات هو مريم ووفاة
يحيى عليهما السلام .
2-
ان هذه المناسبة كان يتعاهدها البحارنة باعتبار أنهم
كانوا على المسيحية قبل الإسلام ولذلك استمروا في الاعتناء بها إلى مابعد الإسلام
خصوصاً أن الدين الاسلامي قد اهتم بهذه الشخصية وأحاطها بشيء من القدسية
3-
ان هذه المناسبة أدخلها الإستعمار البريطاني الذي حكم
البحرين لسنوات طويلة ، وقد ذكر هذا الإحتمال بعض الباحثين ولكن لايمكن قبوله بأي
وجه لعدة أمور أهمها ، أن البحارنة كانوا يحيون هذه المناسبة قبل الاستعمار
البريطاني لأرضهم ، كما ثبت أن الشيخ محمد
المقابي قد كتب حول وفاتها ولا شك فالشيخ محمد المقابي زمانه أقدم من زمن
الاستعمار البريطاني .
وقد بحثت كثيراً في الكتب والمصادر الإسلامية التي تحدثت عن تواريخ الأنبياء
فلم أجد من حدد تاريخاً لوفاة مريم ابنة عمران عليها السلام وكتبنا المعتبرة تخلو
من تحديد هذه المناسبة تماماً خصوصاً وهي المناسبات التي كانت قبل بزوغ التاريخ
الهجري واستخدامه .
في حين وقع تضارب فيما نقله لنا الإخباريون حول وفاتها عليها السلام هل
كانت قبل رفع المسيح أم بعد رفعه عليه السلام
ففي مستدرك الوسائل نقل المحدث النوري خبراً مفاده أن
وفاتها كانت قبل الرفع يقول : في حديث وفاة مريم ، أن عيسى ( عليهما السلام ) ، ناداها
بعد ما دفنت فقال : يا أماه ، هل تريدين أن ترجعي إلى الدنيا ؟ قالت : نعم ، لأصلي
لله في ليلة شديدة البرد ، وأصوم يوما شديد الحر ، يا بني ، فإن الطريق مخوف . [
مستدرك الوسائل ج7 ص: 505 ]
وذكر المؤرخ الكبير ابن الجوزي في كتابه المنتظم في
تاريخ الملوك والأمم [ ج 2 : 41 ] وقد ذكر فيه [ ومن الأحداث بعد رفع عيسى ابن مريم عليهما السلام
وفاة مريم عليها السلام : فإنّها بقيت بعد
رفعه ست سنين ، وكان جميع عمرها نيفا وخمسين سنة]
وذكر
النويري صاحب كتاب نهاية الإرب في فنون الأدب [ ج14 ص : 248 ] مانصه : [ قال الكسائىّ
قال كعب : ماتت مريم ابنة عمران أمّ عيسى عليهما السلام قبل رفعه ، فدفنها في مشاريق
بيت المقدس ] .
وفي نفس كتاب نهاية الإرب أيضاً مانصه [ وحكى الثعلبىّ رحمه
اللَّه أنها ماتت بعد رفع عيسى عليهما السلام . وقال في خبره : إنه لمّا صلب المشبّه
بعيسى جاءت مريم ابنة عمران وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها اللَّه من الجنون يبكيان
عند المصلوب ، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما : على ما ذا تبكيان ؟ فقالتا عليك
. فقال : إن اللَّه تعالى رفعني فلم يصبني إلا خير ، وإنّ هذا شئ شبّه لهم . ثم قال
أيضا في قصة وفاة مريم عن وهب : لمّا أراد اللَّه تعالى أن يرفع عيسى عليه السلام آخى
بين الحواريّين وأمر رجلين منهما وهما شمعون ويوحنّا أن يلزما أمّه ولا يفارقانها ،
فانطلقا ومعهما مريم إلى نيرون ملك الروم يدعوانه إلى اللَّه عز وجل ، وقد بعث اللَّه
اليه قبل ذلك بولس. فلمّا أتوه أمر بشمعون وبولس فقتلا وصلبا منكَّسين ، وهربت مريم
ويوحنّا ، حتى إذا كانا في بعض الطريق لحقهما الطلب ، فخافا فانشقت لهما الأرض فغابا
فيها ، فأقبل نيرون ملك الروم وأصحابه فحفروا ذلك الموضع فلم يجدوا شيئا فردّوا التراب
على حاله ، وعلموا أنه أمر من اللَّه عز وجل . فسأل ملك الروم عن حال عيسى فأخبر به
فأسلم . وقد قيل في إسلامه غير هذا ، على ما نذكره إن شاء اللَّه تعالى ]
وهذه المرويات التي تشير لكون مريم (ع) توفيت مابعد
الرفع فيها تقارب مع المرويات المسيحية ، على أننا لو نظرنا وتفحصنا رواية الوفاة
المتداولة والتي تقرأ في المآتم لوجدناها تشير لكون الوفاة قبل الرفع على أنها
لاتستند على مرويات منقحة وثابتة الأسانيد والله تعالى العالم بحقيقة الحال .
بقلم بشار العالي
25 صفر 1436ه