الثلاثاء، 26 يناير 2010

الحنينية في ذاكرة البحرين

نبذة تعريفية :

الحنينية ، عين ماء- بئر- ،و واد يقع في الرفاعين من جهة الرفاع الشرقي واسم لموقعة أيضاً . وتعتبر عين الحنينية إحدى أشهر عيون الماء في البحرين فهي تأتي بعد عين عذاري ، وقصّاري من حيث الشهرة ، وإحدى ثلاث عيون مشهورة في تلك الناحية وهي عين أم غويفة وعين العتيقة ، وكان ماؤها عذب بحيث يضرب فيه المثل لشدة عذوبته في البحرين فيقال ( كأنه ماي حنيني ) ويمكن أن يقال أن ماءها من أعذب مياه البحرين . وأما الوادي المجاور لها من جهة الجنوب وتطل عليه قلعة الرفاع فهو واد جميل إلا أنه يعتبر من المناطق الممنوعة تقريباً ولا يحتوي هذا الوادي على أي مواقع أثرية بحسب المسح الذي أجرته الكثير من البعثات في البحرين وهو واد صحراوي تكثر فيه أشجار العوسج ولا يرتاده إلا القليل سوى القاطنين في الرفاع . ويضم بعض المنشآت النفطية وناد رياضي .
الماء الحنيني في ذاكرة المنامة :
حكى لي أكثر من رجل من كبار السن ان جماعة من العمانيين وبعض القاطنين في الرفاع كان يمتهن مهنة نقل الماء والمعروف قديماً بالسقّاي ، وكانوا يحملونه على البغال والحمير ليوصلوه لأهل المنامة وكان المشرب المفضل عند علية القوم وحتى بقية الناس لكونه أعذب مياه البحرين

في كتب التاريخ والمصادر :

1- لعل أقدم مصدر ذكر هذه العين في المصادر التاريخية يرجع للعام 1604م للرحالة البرتغالي [ بيدرو تنهسيرا] حيث يقول في وصفه للبحرين : ( وتوجد آبار في البحرين ولكن أغلبها ليس عذباً ، ومع ذلك يصلح ماؤها للشرب ، وأحسن هذه الآبار الحنينية ، وهذا البئر عميق ويقع في وسط الجزيرة ، وتأتي بعده في الجودة تلك الينابيع التي تتواجد تحت سطح البحر .. ) ويلاحظ على كلامه حصره عين الحنينية كأفضل ماء عذب في بر البحرين وهذا الكلام صحيح حيث كان هذا الماء يطلب ويصل حتى أهل المنامة فإن العوائل المرفهة منهم يجعلونه منهلهم الأول . ولا شك إن بئر الحنينية أو عين الحنينية تعود لتاريخ أقدم من هذه السنوات بكثير فلهذه العين وجود قبل قدوم الأسرة الخليفية للرفاع واستيطانهم فيها .

2- وذكرها النبهاني في كتابه [ التحفة النبهانية ] في ذكره للمدينة الرابعة _ بحسب تصنيفه _ وهي الرفاع فقال مانصّه : ( وشرب أهله من أربعة آبار ثلاثة منها جهة الجنوب في الروضة ، وهي من حفر الأقدمين ، والرابعة جهة الشمال وتسمى الحنينية المشهورة بالعذوبة ، والآمر بحفرها الشيخ سلمان بن أحمد _ المذكور _ ( ابن احمد الفاتح ) وعمقها نحو ثمانية أبوع . وأوقف عليها نخلاً لتعميرها ولإظهار الماء منها إلى بركة بحذائها لتستقي منها النساء والفقراء ) .

وذكر في موضع آخر مانصّه : [ وجعل الشيخ سلمان بلدة الرفاع قصبة حكمه وحفر غربي القلعة المذكورة البئر المشهورة ( بالحنينية ) ... ]

الملاحظات على كلامه :

ويلاحظ من هذا الكلام بعض الأمور المهمة وهي :

- إن في الرفاع أربع عيون ماء
- يذكر أن ثلاث من العيون كانت قد حفرها الأقدمون
- يذكر أن عين الحنينية المعروفة قد حفرها الشيخ سلمان بن الشيخ أحمد ، وهذا لا يصح حيث ورد في التقرير السابق الذي ذكرناه أن هذه العين موجودة قبل نزول آل خليفة للبحرين واستيطانهم فيها فقد كانت هذه العين بدرجة من الشهرة لعذوبة مائها ، بحيث ذكرها ( بيدرو تنهسيرا ) في كلامه عن البحرين ، كأبرز عيون الماء في جزيرة البحرين وإلا فالرفاع لم تكن بتلك الشهرة قبل نزول آل خليفة فيها . فكلامه من إن الشيخ سلمان هو الذي حفرها غير صحيح نعم ربما أمر بإصلاح شأن هذه العين لأهميتها بالنسبة للقاطنين في الرفاع ومن حولها . ونفس كلام النبهاني نقله التاجر في كتابه عقد اللآل دون تعليق أو إضافة . ومن ناحية أخرى لا ننسى ان هذه القلعة _ قلعة الرفاع _ هي أقدم من زمن دخول آل خليفة البحرين وبالتالي فالحاجة للماء كانت اقدم بالنسبة لقلعة محصنة فقدم القلعة التي بنيت زمن فرير بن رحال ينبئ عن ان البئر او العين اقدم تاريخياً .
ثم إن التقرير السابق كان في مطلع القرن السابع عشر ، واستقرار الشيخ سلمان بن أحمد في الرفاع كان في القرن التاسع عشر فلاحظ الفرق بين الفترة الزمنية بين الطرفين ولا غرابة فإن صاحب التحفة النبهانية ليس من أهل البحرين وقد دوّن ما أملي عليه دون تحقيق واطلاع .

تعليق ورد في مجلة الوثيقة :

وتحت هذا العنوان وكلام النبهاني لا يفوتني أن أنقل ماجاء في مجلة الوثيقة العدد 55 للعام 2009م / للدكتور علي أبا حسين حول هذه النقطة في كلامه عن الرفاع الشرقي : ( وفيها عين الحنينية ، وماؤها عذب ، وهي عميقة ، وأوقفت هذه العين على جميع الناس وكانت النساء يرتدنها ويسبحن فيها ، ويشرب منها الفقراء .) .
ويلاحظ في كلامه أن عين الحنينية كانت موقوفة ، فلعل الواقف هو الذي قام باستصلاحها على نفقته بعد أن كانت موجودة في الأصل وقام بوقف النخيل على إصلاحها وبالتالي قام بوقف هذا المشروع برمته وإلا فلا وجه للوقفية فيما لايملك ( لأن الوقف فرع الملكية والتصرف ناشئ من قاعدة السلطنة الفقهية ) ، وإلا فكيف يوجه كلام صاحب التحفة النبهانية .
والمستفاد بحسب نقل الدكتور أبا حسين الذي بلا شك أنه اطلع على الوقفية أو نقلها من مصدر موثوق فالدكتور هو الذي يدير قسم الوثائق التاريخية منذ سنوات . نقول أن المستفاد أن عين الحنينية هي وقف لهذا الشعب وللناس جميعاً وليست ملكاً لأحد .

3- وذكرها في قلائد النحرين ، ناصر الخيري ( المتوفى 1925م ) مستطرداً في ضمن حديثه عن الرفاع الشرقي فقال : وبها أبيار ماء الحنيني المشهور بعذوبته ) ولا فرق بين البئر والعين فالمقصود واحد ، ولكن الغريب تعبيره بصفة الجمع في كلمة أبيار ، وربما من باب تغليب عين الحنينية بإسم الوادي الذي لا يبعد أن يكون بالقرب منها غيرها فيأخذون اسمها تغليباً .

4- وذكرها أيضاً الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه ( ماضي البحرين وحاضرها ) في ذكر الرفاع الشرقي قال : وفي الرفاعين الحنينية الشهيرة وهما عينان عذبتان ليس في البحرين ولا غيرها من الينابيع الطبيعية عذوبتهما بل هما وماء المطر سيّان .

إقامة متنزه الحنينية :

لقد ضلت عين الحنينية لسنوات طويلة تقدر بأكثر من خمسة عشر عاماً من عامنا هذا 2010م مغلقة ومحاطة بحيث لا يصل لها أحد ،علامة على كونها من الأملاك الخاصة ، وقد شربنا من مائها إلى حوالي أواخر الثمانينات من القرن الماضي حيث كانت متاحة للناس يملؤون منها ما يشاؤون ، ثم أحيطت بسور وبعدها لا نعلم مالأمر ، إلى أن قرأت في جريدة الوطن عن فكرة مشروع إعادة تأهيل العين وقد جاء في الخبر مايلي : أشار رئيس بلدي الجنوبية علي المهندي إلى بدء العمل فعلياً على إعادة تأهيل عين الحنينية وعين أم غويفه والعين العتيقة بالتعاون مع وزارة شئون البلديات والزراعة، حيث من المرجح أن تصبح تلك العيون واجهة سياحية هامة في ديسمبر المقبل تزامناً مع احتفالات البلاد بعيد جلوس جلالة الملك والعيد الوطني. وقال المهندي إن ''تلك العيون الواقعة في وادي الحنينية والرفاع الغربي تعد من العيون التراثية القديمة التي كانت مقصداً لجلب المياه العذبة وتزويد المنازل القريبة والبعيدة، والتي لا تزال تنبع بالمياه العذبة بالرغم من الإهمال التي تعرضت له خلال السنوات الماضية، الأمر الذي سيسهل عملية إعادة تأهيل تلك العيون. وفيما يتعلق بمراحل التأهيل، نوّه المهندي بقيام المجلس البلدي بالتعاون مع وزارة البلديات والمقاول المختص بالمشروع بتصميم خرائط لتنفيذ المشروع وبالشكل القديم لتلك العيون وبما يترجم رغبة جميع المعنيين في تأهيل وترميم تلك العيون دون المساس بتصاميمها الأصلية. وأضاف أن ''المجلس البلدي بالمنطقة الجنوبية حريص على إتمام هذا العمل في وقت قريب والعمل سيتواصل مع المناطق المحيطة بالعيون من حيث تجميلها وإعادة إحيائها بحيث تصبح واجهه ومعالم سياحية هامة في المنطقة الجنوبية''.

بين الوادي والعين معركة الحنينية :

ذكرت في بداية تعريفي بالحنينية أنها بئر أو عين وقد تحدثت عنها ، وهي كذلك واد يقع غربي الرفاع الشرقي ويمتد حتى تخوم سافرة من جهة الغرب ومن جهة الجنوب يمتد بالممشى الجديد وفيه بعض المنشئات النفطية والأنابيب ويرتاده بعض المتنفذين كما أسلفنا ، إلا أن القلعة عند فئة من الناس تعرف أيضاً بقلعة الحنينية نسبة للواد ولكن هذه التسمية غير مشهورة و بين هذه المنطقة وقعت معركة في يوم من الأيام لا يفوتنا أن نذكرها :
تعرف هذه المعركة بـ( وقعة الحنينية ) وقعت بالقرب من العين وكانت في العام 1258هـ ، بحسب نقل صاحب التحفة النبهانية ، وطرفا المعركة هما من آل خليفة والسبب هو كرسي الحكم ، فالطرف الأول هو الشيخ عبد الله بن أحمد الفاتح من آل خليفة وقد كان الحاكم الفعلي للبحرين وهو ثالث حكام آل خليفة تولى الحكم في البلاد في العام 1236هـ بعد وفاة أخيه سلمان بن أحمد ، والطرف الثاني هما الشيخ محمد بن خليفة بن سلمان بن أحمد الفاتح وهو حفيد أخيه ( أي حفيد أخ الحاكم الشيخ عبد الله ) ، وأخوه الشيخ علي بن خليفة ، وبدأت هذه المعارك على أكثر من ناحية من نواحي البحرين منها ( الناصفة ) بالقرب من سند وتعرف بوقعة الناصفة ، و ( وقعة سوق الخميس ) بالقرب من البلاد ، والثالثة هي ( وقعة الحنينية ) وبعدها وقعة ( الساية ) بالمحرق وكل هذه الوقائع في نفس الفترة إنما ميزها تبدل المواقع على جزيرة البحرين وقد وقف بجنب الشيخ محمد بن خليفه أخوه الشيخ علي الذي انتصر عل الشيخ عبد الله في موقعة الحنينية وتمكنا من هزيمة عم أبيهم الحاكم الشيخ عبد الله وانتزعا الحكم منه بعد أن استعانا بالعتوب من آل بن علي المتواجدين في جزيرة قيس ( كيش ) حالياً واستعانا بقبيلة النعيم وآل بوكوارة والجلاهمة حيث اجتمعوا على الحاكم الشيخ عبد الله فانهزم من أمامهم ، وتولى الشيخ محمد بن خليفة مقاليد الحكم كحاكم رابع من عائلة آل خليفة وقد قتل في هذه المواقع جماعة من آل خليفة ذكرهم النبهاني في التحفة ، وذكر النبهاني أيضاً من أرخ لهذه الحادثة بقوله ( شر نحر شر ) أي في العام 1258هـ ، أما الحاكم الشيخ عبد الله فقد خرج من البحرين ومات بمسقط وكانت مدة حكمه 22 عاماً .

المصادر والمراجع :


- عقد اللآل في تاريخ أوال : 42
- مجلة الوثيقة العدد 55 : 63
- التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية : 47 ، 98 ، 108 .
- قلائد النحرين في تاريخ البحرين : 435
- ماضي البحرين وحاضرها للشيخ إبراهيم المبارك .
- جريدة الوطن العدد :1342 بتاريخ 13 – 8 -- 2009 .
وكتب بيمينه
بشار عبد الهادي عيسى العالي البحراني

الأربعاء، 20 يناير 2010

البحرين تودّع الشيخ حسن الباقري

ارتحل عن الدنيا الفانية في يوم الأربعاء الموافق 4 صفر من العام 1431هـ ، 20 يناير 2010م ، خادم الإمام الحسين الخطيب العلامة الشيخ حسن بن الشيخ علي الديهي ( الباقري ) البحراني ،من مواليد الديه العام 1931م، أخذ الخطابة عن والده وكان ذا سمعة خطابية متقدمة ، ونقل أحد معاصريه أنه بدأ تعلم الخطابة وله اثنا عشر عاماً ، ثم تتلمذ في البحرين وأخذ بعض المقدمات فيها في مدرسة الشيخ عبد الحسن آل طفل الجدحفصي كأحد التلامذة ومن ثم كأحد المدرسين، وهاجر للنجف لتحصيل العلوم الدينية حيث نقل عنه اقرانه أنه كان من المحصلين المجدين في طلب العلم ، ويعتبر الشيخ الباقري من تيار الخطابة التجديدي الذي اهتم بطرح الرؤى والأفكار المعاصرة والدفاع عن العقيدة والفكر الإسلامي وهو أحد أساتذة المنبر الحسيني الخطابي وروّاده الذين أثروه خلال عقود مضت قضاها في خدمة المنبر الحسيني وتبليغ رسالته ، ومن غريب الموافقات إن و فاته كانت قبل ذكرى وفاة الإمام الحسن المجتبى بيومين وهو نفس التاريخ الهجري الذي نوفي فيه والده أيضاً كما أخبرني بعض ذويه من أهل قريته ، وهذه أبيات من الشعر قلتها في يوم وفاته :

إن دمع العين أوهى ناظري * وهو ينعى بالخطيب الباقري
شيخنا رزؤك أردى خاطري * ماتوهمتك نعشاً ياهمامْ
عدت من ذكراك تهوى النجفا* حينما صليت في فرض الوفا
جارك المولى علي وكفى* فهنيئاً لك في دار السلامْ
حن وادي المرتضى يبكي عليك * حيـنما مدّ أياديه إليك
وعليٌ إسمه في مقلتيك* دمعة رقراقةٌ تحوي المرامْ
عد إلى الرضوان في جنب الأمير* من يديه سوف يسقيك الغدير
إنـه خير ولـي ونصير* لم يزل يرعاك مابين الزحامْ
إنها البحرين تنعى فخرها* خادم الزهراء من قد برها
بث حب الآل أذكى جمرها* صادحاً في حبها بين الظلامْ
حسنٌ أنت وفي عين الحسن * من كريم الآل وهو المؤتمن
من قراه حيث لا تلقى الحزن * كيف وهو الجود من آلٍ كرامْ
وعلى المنبر كنت الأسدا* تقرأ النعي فتبكي أحمدا
أيها الشيخ فما ضاعت سدى * ذخرك الدمعات من عام لعام ْ
( مدنً ) تبكي أسىً أعوادهُ * في انتظار ترتجي روادهُ
ياخطـيباً هـذه أورادهُ * أحيت الموتى وتشفي للسقامْ
لم يخب والله من رام الحسين * أو بكى العباس مقطوع اليدين
أو بكى الحوراء بنت النيرين * واغتدى من كربلا ينعى الإمامْ
سوف يلقاك حسين في الجنانْ * وطن الآل وآفاق الأمانْ
فهنيئاً لك في هذا الضمان * عند أهل البيت يانعم المقامْ
شيخنا تبكيك بالدمع العيون * عد إلى الرضوان يا قلب الحنون
حيث لا خوف ولا هم يحزنون * وغداً نلقاك في يوم القيامْ

تمت في 4 صفر 1431هـ
وكتبها بشار عبد الهادي العالي البحراني

السبت، 16 يناير 2010

الأنفاس الحسينية عند الشيخ حسين آل عصفور

الشيخ حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور الشهيد في تاريخ 21 شوال من العام 1216هـ ، المصادف 24 فبراير 1802م، والمدفون في قرية الشاخورة ، كانت هذه الشخصية ولا زالت تحتل مقاماً رفيعاً في ذاكرة ووجدان الشعب البحراني لأنه جزء لا يتجزأ من هذه الأرض ، وهذه الجزئية مرتبطة بكونه مرجع البحرين وفقيهها المقدم وصاحب الرأي فيها ، وأحد الذين ركزوا عقيدة أهل البيت عليهم السلام وثبتوا محبتهم في قلوب الناس عبر الكثير من مساهماته في خدمة المذهب فكان حقاً المصداق لما ورد في روايات الأئمة (ع) ففي قول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : ( فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا ، بتعليم ماهو محتاج إليه ، أشد على إبليس من ألف عابد ... )([1]) ، وفي قول الإمام الحسين صلوات الله عليه : ( فضل كافل يتيم آل محمد ، المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل ، يخرجه من جهله ، ويوضح له ما اشتبه عليه ، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه ، كفضل الشمس على السها )([2]) فيتبين من خلال هذه الروايات وأشباهها أن المراد من كافل اليتيم هم الفقهاء وأن المراد من اليتيم هم الأفراد والمسلمون ، بل صرفها بعض شرّاح الكافي([3]) الشريف بالشيعة دون غيرهم وهو الظاهر من النسبة للآل ، ولأن وظيفة الفقيه هو إرشاد هؤلاء التائهين عن دروب الحق وإيصالهم لحقائق الدين وتعريفهم بالأئمة صلوات الله عليهم .

لقد ركّز الفقيه البحراني الشيخ حسين الذي هو أحد الكافلين لأيتام آل محمد صلى الله عليه وآله لعقيدة أهل البيت عليهم السلام على مستويين مهمين في البحرين :

المستوى الأول : هو المستوى النظري ، ويتمثل في تأليفاته القيّمة التي ركزت عقيدة الإمامة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ومنها على سبيل المثال :

1- كتاب محاسن الإعتقاد ، وهو كتاب مرتب على مباحث المتكلمين ، يذكر أنه كتب كمقدمة لكتابه وموسعته القيمة كتاب السداد ، وهذا الأسلوب مهم في دمج الكتاب العقدي مع البرنامج الفقهي والرسالة العملية للمكلفين فكما أنهم ينهلون الجانب الفقهي ويتعلمون الأحكام الشرعية من الفقيه فهم كذلك يأخذون المسائل العقدية فهي لا تقل أهمية عن المسائل العقدية إن لم تكن أكبر أهمية منها ، وفي هذا التأليف ركز الشيخ على بيان معتقدات الشيعة الإمامية في التوحيد والنبوة والإمامة رابطاً لهذه المباحث المهمة بما يتصل بروايات أهل البيت صلوات الله عليهم . وقد طبع هذا الكتاب وللأسف بعد حذف بعض المطالب فيه ، ليكون أكثر مناسبة مع الرأي العام السائد وهذا يعتبر تحريفاً ، فلنقرأ الشخص كما هو بآرائه ومعتقداته لا أن نخضعه لآرائنا وظروف زماننا .
2- منظومة ( شارحة الصدور ) وهي منظومة راقية في أصول الدين ، على مذاق فقهاء الإمامية جمع فيها بين النقل ، والعقل ، ونقل لي بعض حفدته أنه رأى شرحاً لها لأحد أحفاده أو أولاده من العلماء في ( بوشهر ) والله تعالى العالم. وقد قام بتحقيها وطبعها سماحة الشيخ سعيد بن عباس العصفور الدرازي . وهي لون آخر من تركيز الجانب العقائدي في فكر هذا الرجل الفقيه .
3- كتاب ( القول الشارح والحجة فيما ورد عمن هو على العباد حجة ) وهو كتاب قيم فعلاً في المجال العقائدي وقد طبع بتحقيق حفيده الشيخ حسن بن الشيخ أحمد العصفور ، ولم يطبع كاملاً فالمطبوع هو الجزء الأول ، وفيه عدة مسالك استدلالية في التوحيد ، ومباحث مهمة في الصفات ، وأسماء الله الحسنى ذكر فيه جملة من مسالك الحكماء ، لا يفوته أن يشرّبها بأقوال المعصومين عليهم السلام ، كما ضمّنه شرح أسماء الله الحسنى وما يتعلق بها من مطالب عقائدية مهمة .
فهذه التأليفات لا شك أنها تحفظ جانباً كبيراً من العقيدة على المستوى النظري لا سيما أن بعض مباحثها هي أسس في الفكر الشيعي كمسألة نفي التجسيم ، ومسألة رؤية الله جل وعلا ، وقد ترك مشربه الأخباري أثره في تصانيفه الشريفة فلا يفتأ يطعمها بأحاديث الأئمة المعصومين وبإعتباره المرجع المشار إليه في البحرين فلاشك أن هذه التأليفات تركت أثراً في ذلك الزمان أي القرن الثاني عشر وبدايات القرن الثالث عشر الهجريين على مستوى المدارس والحوزات بإعتباره المرجع المهيمن على كرسي التدريس والرأي والمرجعية على مستوى المكلفين أيضاً وهو ماحفظ المدرسة الإمامية أمام الكثير من التجاذبات في تلك الأزمنة .

المستوى الثاني : الجانب العملي ، لقد كان الشيخ حسين العلامة يتمتع بنوع خاص من فن الإدارة إن صح التعبير ففي زمن تغيب فيه المؤسسة بمعناها الحاضر كان يمارس لوناً قل نظيره من فن إدارة البلاد على المستوى الديني وحتى السياسي فقد كانت البحرين بشعبها الشيعي مثالاً رائعاً للإنقياد للزعامات الدينية وربما يرجع هذا لفكرة الإمامة ووجوبها في الفكر الإمامي منذ زمن الأئمة الذين أمروا الناس وشيعتهم بالرجوع للفقهاء العدول الحائزين على مراتب الورع والتدين .
فكان الشيخ يدير حوزته العلمية في قرية الشاخورة بدروسه التي تعج بطلبة العلوم الدينية ، ومن هناك يدير شؤون الفتيا والقضاء ، كما كان يوزع تلامذته على أنحاء البحرين وقراها كأئمة للجماعة والجمعة وهو ما يستفاد من بعض المخطوطات والإجازات الراجعة لتلك الحقبة المهمة التي تزامنت مع دخول آل خليفة حكام البحرين الحاليين واستيطانهم جزيرة أوال زمن الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة الملقب بالفاتح وابنه الشيخ سلمان فقد كانت مرجعيته في تلك الفترة في أوجها قبل أن يحتل البحرين العمانيون .

لقد كان لشخصية الشيخ حسين ثقلاً في حفظ الكيان الشيعي في البحرين فهو الفقيه المحافظ على حياض الشرع فقهاً وعقيدة . ولا شك فإن هذا له بالغ الأثر في تكوين ثقافة معينة لدى الشعب البحراني آنذاك ، وحتى لو تأملنا لختمه الشريف الذي كان يمثل مثابة توقيع بمفهومنا الحالي فقد اختار حديثاً نبوياً في شأن المولى ابي عبد الله الحسين عليه السلام فختمه الشريف هو ( قال محمد حسين مني ) وهو إشارة لقول النبي صلى الله عليه وآله : ( حسين مني وأنا من حسين ) مما يكرس لحال المحبة والفناء في شخصية الحسين سلام الله عليه ، ولنأخذ بعض الأمثلة في هذا الجانب العملي في فكر وشخصية الشيخ حسين ومدى علاقته بالإمام الحسين صلوات الله عليه :

المثال الأول : الفقيه الذي يلقن تلامذته محبة الحسين ، نقل أكثر من مصدر أن الشيخ حسين كان لا يبدأ درسه إلا بعد قراءة التعزية على سيد الشهداء وقراءة المرثية ثم يشرع في درسه . إن هذه الفكرة لتركز على تلقين هذه العقيدة في نفوس تلامذته الذين تسلموا المرجعية من بعده فكانت واضحة فيهم ، ولا شك أن لها ظهوراً في العلماء فضلاً على العوام من الناس الذين استقرت في نفوسهم المحبة الحسينية .

المثال الثاني : كثرة تأليفاته في الشأن الحسيني ، كانت تأليفات الشيخ حسين في الإمام الحسين عليه السلام تمثل منعطفاً مهماً لا يمكن إهماله في دراسة واقع الحركة الحسينية وتأثيراتها على الهوية البحرانية فقد ألف نوعاً من المؤلفات لتقرأ في المناسبات على حسب ورودها في التاريخ على مدى العام فمثلاً ألف كتاب الفوادح أو ( تهذيب الفوادح الحسينية ) على طريقة كتاب الفخري المعروف والذي يشمل سيرة الحسين ومقتله ليقرأ في الليالي والأيام في محرم الحرام كمجالس يجتمع المؤمنون ويتلونها تتضمن الروايات والأشعار بأسلوب أدبي شيق يحفز الأفئدة المتطلعة لنافذة الولاية ويجرها لحريم الحضرة الحسينية فتجوب في رحاب الحسين مما يمثل لها انشداداً نحو أبي عبد الله صلوات الله عليه ، فكانت تلك المجالس المكتوبة تقرأ في أيام وليالي شهر محرم سيما العشرة الأيام الأول ، وكتب أيضاً في سيرة الحسين كتاب يعرف لليوم بكتاب ( المراحل ) وهو يتحدث عن مسير عائلة الحسين حتى وصولهم للمدينة بعد حادثة كربلاء المفجعة وهو يتلى لأربعين الحسين عليه السلام . ومازال أهل البحرين حتى يومنا يعتبرون هذين الكتابين أحد أهم الكتب في إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين حيث يتلى في الحسينيات قبل قراءة الخطيب الحسيني .
ومما جاء في كتاب الفوادح أو تهذيب الفوادح مثلاً قوله رحمه الله : [ فاقتدوا عباد الله بملائكته المقربين ، وانصروه في هذه الدار بالبكاء والحنين ، فإنه قائم مقام الجهاد بين يدي سيد المرسلين ، ولا تصرفوا جواهر هذه الأعمار والدر الثمين ، في غير خدمتهم وطاعة رب العالمين ، واعلموا أن في ذلك كمال الإيمان والدين ] ([4]) . فأمثال هذه الكلمات بسجعها تركت في الوجدان البحراني ذكريات مع كربلاء حفرتها أنامل هذه الشخصية التي ربطت الناس بأهل البيت صلوات الله عليهم وبالحسين عليه السلام .
وللشيخ حسين رحمه الله كتاب آخر اسمه ( مريق الدموع في ليالي الأسبوع ) جعله ليقرأ في كل ليلة من ليالي الأسبوع وهو مجالس مختصرة صاغها في قوالب أدبية رائعة يقول رحمه الله في [ فمزّقوا الأطمار على هذه المصيبة التي كُورت لها شمس النهار ، واسكبوا المدامع الغزار وخدّدوا الخدود بالخدود والأنهار وواروا في قلوبكم تلك الجمار، إن كنتم من الشيعة الأبرار ]([5]) فهذه الكلمات التي يعقب بها بعد ذكر رواية أو خبر في شأن الحسين عليه السلام ،تمثل حالة من التهييج للمشاعر وحثها بحماسة لربطها بمصيبة الحسين كما تمثل حالة من الإثارة وهي مشحونة بالولاء والمحبة والعاطفة للحسين عليه السلام . ويقول في مجلس ليلة الإثنين : [ في الليلة الثالثة من الإسبوع وهي ليلة الإثنين وفيها قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقبض فيها كل إمام وشهيد فمن تبرك بهذا اليوم كان شريكاً لقاتلهم ، وفي بعض الأخبار أن فيه مقتل الحسين عليه السلام ، فيحق لنا أن نتخذه مأتماً مدة الأعمار والسنين كما اتخذوه عليهم السلام ، ومنعوا فيه التبرك ، وجعلوا الصائم فيه شريك ابن مرجانه ، فصبوا فيه المدامع الهتّانة ، وأعلنوا فيه بالنياحة المعلنة وضجّوا ضجيج الثواكل ، وتذكروا خلو تلك الربوع والمنازل ، لعلكم تشاركوهم في تلك الخصال ، وتقيمون ببعض ما أوجبه عليكم الملك المتعال ...]([6]) ، فإنه يحاول دمج المستمع لهذه المجالس بفحوى خطابات الأئمة الطاهرين ورواياتهم من احترام وتقديس الأيام المتصلة بالأئمة ، وهو ماتحوّل في المجتمع البحراني تدريجياً لملامح ولائية وارتباط بشخصيات أهل البيت والإمام الحسين عليه السلام . ويقول : [ فشمّروا الأذيال ، واتخذوا العزاء واسهروا جنح الليالي ، واجعلوا الأحزان من شعاركم فإنه من أعظم الأعمال ، ولا تبخلوا بدموع أهرقتموها على المنازل والأطلال ، وليس بنافع لكم في العقبى والمآل ...]([7]) ، فكانت لهذه الأدبيات بالغ الأثر في تشكيل وتركيبة عقلية الناس ونسج أفكارهم بمحبة أهل البيت ومحبة إقامة مجالسهم والمحافظة عليها وذرف الدموع لعظيم مصابهم وجليل ماوقع عليهم .
فكانت كل ليلة من ليالي الأسبوع تمثل حضوراً لهذه الشخصية في مجالس أهل البحرين يذكرهم بالإمام الحسين عليه السلام وربما كان للشيخ حسين العصفور حضوراً تأسيسياً لمجالس العادة المشتهرة في البحرين إلى يومنا وهي أن تقام مجالس التعزية بشكل يتوزع على الليالي والأيام في الحسينيات فيكون مثلاً يوم الجمعة مخصص بعائلة فلان يقيمون مجلسهم الحسيني ويوم الأربعاء في منزل فلان أو الحسينية الفلانية فهي عادة قديمة دأب عليها أهل البحرين ، وأستطيع الجزم بأن ذكر الحسين عليه السلام لا ينقطع طوال أيام العام من البحرين بهذه المجالس بل حتى أيام العيد أيضاً هناك مجالس تقام في بعض القرى ، وهناك مآتم وحسينيات تقرأ مجالسها طوال العام مثل حسينية ومأتم مدن بالمنامة ، وحسينية ( أبو عقلين ) بالمنامة أيضاً ، بالإضافة للمجالس النسائية التي لا تهدأ في البحرين طوال العام . ولقد كان للشيخ حسين علاقة بتأجيج هذه الحمية والعلاقة بين الناس وبين الحسين عليه السلام .
المثال الثالث : حفظه لحق باقي الأئمة الطاهرين : وأكمل هذا الشيخ مسيرته في التأليف على مستوى كتب المجالس التي تقرأ في تعزية أهل البيت عليهم السلام ، وقد أشار في بعض مقدمات مؤلفاته المشتهرة والمتداولة في البحرين ليومنا هذا على الرغم من كون بعضها مازال مخطوطاً لم يطبع ولكنه متداول أيضاً ونلاحظ مايذكره في مقدمته في بعض كتب وفيّات الأئمة صلوات الله عليهم : [ وبعد فيقول أحوج العباد إلى عفو ربه السبحاني حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني ، إني لما رأيت الناس معرضين عن إقامة بقية مآتم الآل ، بعد مصيبة الطفوف ، وذلك من أعظم الأحوال لشيعتهم ..] ([8]) ، ويظهر من هذا الكلام أنه كان يعالج قضية دينية واجتماعية تمر بها البحرين في تلك الأزمنة من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين ، وهي إعراض الناس عن إقامة مجالس بقية الأئمة الطاهرين واكتفائهم بذكر مصيبة الحسين وكربلاء ، وكان رضوان الله عليه قد شمّر عن ساعديه فألّف في وفيات جميع الأئمة دون استثناء فغيّر ذاكرة شعب بأكمله لينشغل بالأئمة الطاهرين ويصبح الأئمة حاضرين طيلة العام في مجالس أهل البحرين ، فأصبحت البحرين تشيّد المآتم والحسينيات وتذكر المعصومين .
ولقد كان والده الشيخ محمد العصفور الفقيه البحراني قد ألّف أيضاً في وفاة أمير المؤمنين (ع) كما قام بإكمال ( أوراد الأبرار )
أو كتاب ( الأسفار ) الذي ألّفه الشيخ حسن الدمستاني ، وكلها من الكتب المجلسية التي كتبت على منوال المنتخب للشيخ الطريحي ، فكان الشيخ الفقيه حسين العصفور امتداداً لتلك المدرسة ولكنه أضاف الكثير وأشاد المباني سيما في ذكريات باقي الأئمة وهذا أمر تطور في البحرين فيما بعد فأصبحت ذكريات الأئمة لا تنقطع في أوال البحرين .

المثال الرابع : النفس الأدبي والشاعرية : لقد كان رحمة الله عليه شاعراً وقد طعّم بعض مؤلفاته من وفيات الأئمة عليهم السلام بشئ من شعره ولعمري فقد ورد في الأحاديث عنهم صلوات الله عليهم الحث على كتابة الشعر في آل محمد وفي مصائبهم فقد كان مثالاً تطبيقياً للغاية التي من أجلها أمروا شعراءهم برثاء الحسين والأئمة من ولده ، وفي أكثر من مصدر من المصادر التي اعتنت بتراث العلماء ذكرت أن للشيخ رحمه الله ديوان شعر ولا ريب أن ذلك الديوان كان ممتلئاً بشعر الولاية ، وللأسف الشديد فإن هذا الديوان من المفقودات لحد الآن لم نجده في المكتبات التي تعنى بهذا اللون من ألوان التراث وبالمخطوطات وحتى المهتمين بالمخطوطات على حد معرفتي لم يذكروا أنهم يمتلكون نسخة منه فلعل الزمن يرينا يوماً من الأيام نسخة خبأها في إحدى الزوايا فإنها لابد أنها ستكون لوناً آخر لهذه الشخصية البحرانية العلمية والأدبية والفقهية التي يفخر كل بحراني بها . أما على مستوى الأدب النثري فهو واضح في كتاباته الفقهية فضلاً عن الولائية منها فإنها تعج بنثره الرائق ، والحمد لله أولاً وآخرا .

وكتب بيمينه الداثرة
بشار العالي البحراني
1 صفر 1431هـ

الهوامش والمصادر :

([1]) الشيخ الطبرسي / الإحتجاج ج1 : 8
([2]) الشيخ الطبرسي / الإحتجاج ج1 : 7 ، ومعنى الناشب هو الواقع فيما لا مخلص منه
([3]) شرح أصول الكافي للمازندراني ج9 : 275
([4]) تهذيب الفوادح : 105 ط حديثة .
([5]) مريق الدموع : 26 ط الرابعة ، وهو مطبوع تحت عنوان مريق الدموع في مراثي أبي عبد الله الحسين عليه السلام أيام الأسبوع .
([6]) مريق الدموع ط : 31
([7]) مريق الدموع ط: 68
([8]) من مخطوط وفاة الإمام زين العابدين : ورقة 1 ، مكتبة كاتب المقال للمخطوطات

الخميس، 7 يناير 2010

محرم وضرورة تقييم الموسم

إن إحياء شعيرة عاشوراء في البحرين واجب ديني ، و تقليد جماهيري دأب عليه أهل البحرين من الشيعة منذ مئات السنين ، ولطالما كان هذا الموسم مميزاً في هذه الأرض لأنه مساحة زمنية لظهور الولاء الكامن في هذا الشعب المؤمن بالقضية الحسينية على أنها تجسد الإسلام بكل مبادئه وقيمه . في هذا الموسم بالتحديد تتدفق سيول من الحشود البشرية كل يوم للمآتم والمواكب لتعلن بيعتها للحسين عليه السلام ، ووقفة منا أمام هذه الظاهرة الحاشدة ألتقط جانباً أحب أن أتناوله بالحديث عنه وأضمنه دعوة صادقة لحفظ هذا التراث الثر في عدة محاور أسأل الله أن يمدني بلطف عنايته لإيصال الفكرة للقارئ العزيز .

المحور الأول : ضرورة الأرشفة
بحسب تعاملي مع تاريخ البحرين على مدى سنوات بين المخطوطات والوثائق أستطيع أن أجزم أن شعب البحرين أضاع كماً هائلاً من تراثه بسبب إهماله وبسبب عدم معرفته بأهمية التوثيق وضرورته فلقد ساهم بشكل ساذج في ضياع معلومات مهمة هو اليوم بأمس الحاجة إليها ، بسبب الإهمال وبسبب الجهل بأهمية الشئ الذي يمتلكه ، ففي كل قرية يعود الموسم الثمين علينا في كل عام . فكم عدد المآتم والحسينيات في البحرين ؟ ، وكم من خطيب يرتقي المنبر فلو افترضنا أن البحرين بها 300 حسينية معنى ذلك أن هناك 600 مجلس حسيني في اليوم الواحد حيث تكون القراءة ليلاً ونهاراً بمعنى أنه خلال عشرة أيام يتحصل لدينا مايقارب من 6000 مجلس حسيني خلال موسم واحد مع أن عدد الحسينيات أكثر والموسم يمتد لأكثر من ستين يوماً خلال شهرين بمعنى أن هناك أرقاماً ستزداد أمامها الأصفار ولكن لو انتهى الموسم نقول كم مجلس حسيني تم تسجيله إنه يؤرخ لتاريخ المأتم ويؤرخ لشخصيات الخطباء ويؤرخ لتاريخ البحرين والأهم من ذلك إنه يؤرخ حالة دينية وشعيرة مهمة ، كل هذه التأريخات تذهب أدراج الرياح ويمر الموسم وكأنه لم يمر فكم قيمة جهاز التسجيل أمام القيمة المعرفية لهذا الموسم وكم قيمة كاميرا الفيديو أمام حفظ المعارف التي يلقيها جماعة لا بأس بهم من رواد المنابر والعلماء الذين ينالهم التعب في تحضير هذه المحاضرات وتدوينها وبعد ذلك ترى أنه لا يوجد أدنى استفادة من هذا الموسم فالخطيب ألقى المحاضرة وانتهى كل شئ ، في بعض المآتم والحسينيات كانوا يقومون بتشغيل شريط فيديو مضى عليه أكثر من عشرين عاماً لقد عاد بذاكرتهم مع ذلك الخطيب ورأوا كيف كانت المواضيع التي يطرحها أساساً لهم اليوم وكيف شكلت وكونت أفكار أهل تلك القرية وساهمت في تشكيلة الوعي عندهم ، من جانب آخر كانت الكاميرا تمر على الكثير من الوجوه التي فارقت القرية للعالم الآخر وبعض الوجوه التي كانت صغيرة آنذاك . كانت ذكريات مهمة بالنسبة للكثير إنها مسؤولية إدارات المآتم التي تهمل هذا الجانب وهي لا تعلم أنها تقبر تاريخها وتاريخ قريتها رغم قدرتها على حفظه بثمن بخس ، وليس الموكب بأفضل حظاً من الحسينية والمنبر فقد عانيت كباحث في مجال الموكب لأن الكثير من القصائد والأطوار والألحان لم تكن موثقة ومؤرشفة وبالتالي ضاعت حقبة مهمة في تاريخ الموكب بسبب عدم الأرشفة والتدوين ، إنها أيضاً مسؤولية أصحاب المواكب وإدارات المآتم في حفظ هذه الأمور حتى لا يضيع تاريخ أمة محبة للحسين عاشت على هذه الأرض . وأدعو لوجود أرشيف في كل حسينية من حسينيات البحرين يحتوي على تسجيلات بالصوت والصورة للمحاضرات طوال العام وبالخصوص موسم محرم وموسم شهر رمضان المبارك بغض النظر عن مستوى الخطيب ، كما لابد أن يكون لدينا أرشيف خاص بالصور والصوتيات للمواكب وباقي الفعاليات التي تقام في هذه المواسم فلو كنا نمتلك ثقافة الأرشفة لما ضاعت علينا الكثير من الأمور المهمة في تاريخنا .

المحور الثاني : ضرورة التقييم :

لست بحاجة ان أتحدث عن حاجة المؤسسات وحاجة الشخصيات لمسألة النقد والإنتقاد حيث أثبت العلماء أنه حاجة فطرية للإنسان . والتقييم لكل عمل هو ماتقوم به كبريات الشركات والمؤسسات الإقتصادية والدول والمؤسسات الحكومية وذلك بالهدف الأول للحفاظ على وجودها كمؤسسة قائمة . بعد هذه المقدمة أود أن أتحدث عن ضرورة التقييم لأداء كل موسم من المواسم . نحن في شهر محرم وموسم عاشوراء ننفق الملايين من الدنانير فهناك جانب اقتصادي له علاقة بهذه الطائفة لو قيمناه لوصلنا لنتائج مهمة وكبيرة وطبعاً هذا الأمر يرجع للمحور الأول وهو ضرورة الأرشفة لنعود لنتائج اقرب للصحة ويتشكل لدينا أساس مهم لدراسات مستقبلية مع هذا الموسم المهم ، من جانب آخر نحن بهذا لتقييم نرتقي لأداء أفضل فعلى صعيد المنبر مثلاً لو أدرك الخطيب أن هناك من يقيم موضوعه أليس هذا يدخل في تحسين مستوى أدائه ولكنه لو علم أن الأمر لا يقيم فهو يساهم في خفض مستوى الأداء ، وكما أنوه أنه لابد أن يكون التقييم بشكل يحفظ فيه مكانة وكرامة الشخصيات وعدم توهينها حتى لا نقع في المحذورات الشرعية ، ألا ينبغي أن تقيم القصائد في مواكبنا حتى نعرف مدى قوتها وضعفها وهل كان المستمع والمتلقي يتفاعل ذهنياً معها أم لا ؟ ألا ينبغي أن نقيم عشرات الرواديد ؟ فكم من قصيدة تلقى ؟ فهناك عشرات المواكب في قرى البحرين وأكثرها تستهلك قصائد جديدة بمعنى أنها تستهلك شعراء ومواهب وطاقات وهناك ألحان يمتعض منها بعض المعزين وهناك أمور بحاجة لاستبدالها ولكن نفتقد التقييم الحقيقي القائم على أسس سليمة في البناء فلو وجد التقييم والنقد الحقيقي لأرتقينا بإدارات مآتمنا وارتقينا بمواكبنا وارتقينا بفنون شعرنا وغير ذلك فهل عرفنا قيمة التقييم ؟ في هذا المحور أدعو لوجود استبيانات تشكل حالة من التقييم للخطباء وأداء الإدارات وأداء الرواديد وإبداء الملاحظات وأخذها بعين الإعتبار بعيداً عن المجاملات ، حتى تثمر مواسمنا بشكل أكبر وترتقي بشكل أفضل .

المحور الثالث : ضرورة العودة للإمام الحسين عليه السلام .


هذه الضرورة هي الضرورة الأولى ولكن أخرت الحديث عنها لأنها الأكثر هموماً وتشعباً ، أليس من المفترض أن هذا الموسم هو موسم الحسين ؟ ولكن تتفق معي قارئي العزيز أننا بحاجة أن نكون حسينيين في هذا الموسم وخارجه للأسف أصبحت هناك بعض الظواهر الدخيلة على مجتمعاتنا كانت الأكثر حضورا في موسم محرم كتبرج الفتيات وخروجهن بكامل زينتهن . إنهن يفسدن موسمنا ويحطمن كل جنبة رسالية في الموسم حتى أصبح موسم محرم موسماً للمغازلات ومجالاً للفساد بعد أن كان الحسين عليه السلام يقول ( إنما خرجت لطلب الإصلاح ) كلا إن هذه الظاهرة لا تمثل موسمنا ولا تمثل مذهبنا ولا تمثل حسين القيم والمبادئ . أمر آخر هو كثرة الصراعات في الموسم ، إن موسم محرم هو موسم إلتقاء للحشود والآلاف من كل أنحاء البحرين ولا ينبغي أن تهدر قيمته بنزاعات وصراعات تفوت علينا الإستفادة من نمير سيد الشهداء حتى ننشغل بتوافه الأمور بين صراع الخطوط والسياسات وبين مشاحنات وصراعات قديمة تعاود لتطفو على السطح ويستثمر هذا الموسم لإذكاء شرارتها من جديد فلو كنا حسينيين بالفعل لما سمحنا لمن يريد أن يشعل فتيل الفتنة أن يستخدم هذا الموسم لإشعالها ( الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها ) ، وفي تصوري أننا بحاجة لثقافة الحسين نثقف أنفسنا كيف نكون حسينيين وكيف نجعل من قيم الحسين هي المحرك لنا ولمواسمنا قبل الدخول للموسم في كل عام . فعلى العلماء أن يقوموا بمواسم تهيئة لإستقبال شهر محرم الحرام كما نصنع مع شهر رمضان المبارك تهيئة على المستوى الروحي والثقافي والأخلاقي حتى يعود علينا الموسم بالنفع بشكل أكبر . والحمد لله رب العالمين

بقلم : بشار العالي
في 20 محرم 1431هـ