الشيخ حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم آل عصفور الشهيد في تاريخ 21 شوال من العام 1216هـ ، المصادف 24 فبراير 1802م، والمدفون في قرية الشاخورة ، كانت هذه الشخصية ولا زالت تحتل مقاماً رفيعاً في ذاكرة ووجدان الشعب البحراني لأنه جزء لا يتجزأ من هذه الأرض ، وهذه الجزئية مرتبطة بكونه مرجع البحرين وفقيهها المقدم وصاحب الرأي فيها ، وأحد الذين ركزوا عقيدة أهل البيت عليهم السلام وثبتوا محبتهم في قلوب الناس عبر الكثير من مساهماته في خدمة المذهب فكان حقاً المصداق لما ورد في روايات الأئمة (ع) ففي قول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام : ( فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنا وعن مشاهدتنا ، بتعليم ماهو محتاج إليه ، أشد على إبليس من ألف عابد ... )([1]) ، وفي قول الإمام الحسين صلوات الله عليه : ( فضل كافل يتيم آل محمد ، المنقطع عن مواليه الناشب في رتبة الجهل ، يخرجه من جهله ، ويوضح له ما اشتبه عليه ، على فضل كافل يتيم يطعمه ويسقيه ، كفضل الشمس على السها )([2]) فيتبين من خلال هذه الروايات وأشباهها أن المراد من كافل اليتيم هم الفقهاء وأن المراد من اليتيم هم الأفراد والمسلمون ، بل صرفها بعض شرّاح الكافي([3]) الشريف بالشيعة دون غيرهم وهو الظاهر من النسبة للآل ، ولأن وظيفة الفقيه هو إرشاد هؤلاء التائهين عن دروب الحق وإيصالهم لحقائق الدين وتعريفهم بالأئمة صلوات الله عليهم .
لقد ركّز الفقيه البحراني الشيخ حسين الذي هو أحد الكافلين لأيتام آل محمد صلى الله عليه وآله لعقيدة أهل البيت عليهم السلام على مستويين مهمين في البحرين :
المستوى الأول : هو المستوى النظري ، ويتمثل في تأليفاته القيّمة التي ركزت عقيدة الإمامة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ومنها على سبيل المثال :
1- كتاب محاسن الإعتقاد ، وهو كتاب مرتب على مباحث المتكلمين ، يذكر أنه كتب كمقدمة لكتابه وموسعته القيمة كتاب السداد ، وهذا الأسلوب مهم في دمج الكتاب العقدي مع البرنامج الفقهي والرسالة العملية للمكلفين فكما أنهم ينهلون الجانب الفقهي ويتعلمون الأحكام الشرعية من الفقيه فهم كذلك يأخذون المسائل العقدية فهي لا تقل أهمية عن المسائل العقدية إن لم تكن أكبر أهمية منها ، وفي هذا التأليف ركز الشيخ على بيان معتقدات الشيعة الإمامية في التوحيد والنبوة والإمامة رابطاً لهذه المباحث المهمة بما يتصل بروايات أهل البيت صلوات الله عليهم . وقد طبع هذا الكتاب وللأسف بعد حذف بعض المطالب فيه ، ليكون أكثر مناسبة مع الرأي العام السائد وهذا يعتبر تحريفاً ، فلنقرأ الشخص كما هو بآرائه ومعتقداته لا أن نخضعه لآرائنا وظروف زماننا .
2- منظومة ( شارحة الصدور ) وهي منظومة راقية في أصول الدين ، على مذاق فقهاء الإمامية جمع فيها بين النقل ، والعقل ، ونقل لي بعض حفدته أنه رأى شرحاً لها لأحد أحفاده أو أولاده من العلماء في ( بوشهر ) والله تعالى العالم. وقد قام بتحقيها وطبعها سماحة الشيخ سعيد بن عباس العصفور الدرازي . وهي لون آخر من تركيز الجانب العقائدي في فكر هذا الرجل الفقيه .
3- كتاب ( القول الشارح والحجة فيما ورد عمن هو على العباد حجة ) وهو كتاب قيم فعلاً في المجال العقائدي وقد طبع بتحقيق حفيده الشيخ حسن بن الشيخ أحمد العصفور ، ولم يطبع كاملاً فالمطبوع هو الجزء الأول ، وفيه عدة مسالك استدلالية في التوحيد ، ومباحث مهمة في الصفات ، وأسماء الله الحسنى ذكر فيه جملة من مسالك الحكماء ، لا يفوته أن يشرّبها بأقوال المعصومين عليهم السلام ، كما ضمّنه شرح أسماء الله الحسنى وما يتعلق بها من مطالب عقائدية مهمة .
فهذه التأليفات لا شك أنها تحفظ جانباً كبيراً من العقيدة على المستوى النظري لا سيما أن بعض مباحثها هي أسس في الفكر الشيعي كمسألة نفي التجسيم ، ومسألة رؤية الله جل وعلا ، وقد ترك مشربه الأخباري أثره في تصانيفه الشريفة فلا يفتأ يطعمها بأحاديث الأئمة المعصومين وبإعتباره المرجع المشار إليه في البحرين فلاشك أن هذه التأليفات تركت أثراً في ذلك الزمان أي القرن الثاني عشر وبدايات القرن الثالث عشر الهجريين على مستوى المدارس والحوزات بإعتباره المرجع المهيمن على كرسي التدريس والرأي والمرجعية على مستوى المكلفين أيضاً وهو ماحفظ المدرسة الإمامية أمام الكثير من التجاذبات في تلك الأزمنة .
المستوى الثاني : الجانب العملي ، لقد كان الشيخ حسين العلامة يتمتع بنوع خاص من فن الإدارة إن صح التعبير ففي زمن تغيب فيه المؤسسة بمعناها الحاضر كان يمارس لوناً قل نظيره من فن إدارة البلاد على المستوى الديني وحتى السياسي فقد كانت البحرين بشعبها الشيعي مثالاً رائعاً للإنقياد للزعامات الدينية وربما يرجع هذا لفكرة الإمامة ووجوبها في الفكر الإمامي منذ زمن الأئمة الذين أمروا الناس وشيعتهم بالرجوع للفقهاء العدول الحائزين على مراتب الورع والتدين .
فكان الشيخ يدير حوزته العلمية في قرية الشاخورة بدروسه التي تعج بطلبة العلوم الدينية ، ومن هناك يدير شؤون الفتيا والقضاء ، كما كان يوزع تلامذته على أنحاء البحرين وقراها كأئمة للجماعة والجمعة وهو ما يستفاد من بعض المخطوطات والإجازات الراجعة لتلك الحقبة المهمة التي تزامنت مع دخول آل خليفة حكام البحرين الحاليين واستيطانهم جزيرة أوال زمن الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة الملقب بالفاتح وابنه الشيخ سلمان فقد كانت مرجعيته في تلك الفترة في أوجها قبل أن يحتل البحرين العمانيون .
لقد كان لشخصية الشيخ حسين ثقلاً في حفظ الكيان الشيعي في البحرين فهو الفقيه المحافظ على حياض الشرع فقهاً وعقيدة . ولا شك فإن هذا له بالغ الأثر في تكوين ثقافة معينة لدى الشعب البحراني آنذاك ، وحتى لو تأملنا لختمه الشريف الذي كان يمثل مثابة توقيع بمفهومنا الحالي فقد اختار حديثاً نبوياً في شأن المولى ابي عبد الله الحسين عليه السلام فختمه الشريف هو ( قال محمد حسين مني ) وهو إشارة لقول النبي صلى الله عليه وآله : ( حسين مني وأنا من حسين ) مما يكرس لحال المحبة والفناء في شخصية الحسين سلام الله عليه ، ولنأخذ بعض الأمثلة في هذا الجانب العملي في فكر وشخصية الشيخ حسين ومدى علاقته بالإمام الحسين صلوات الله عليه :
المثال الأول : الفقيه الذي يلقن تلامذته محبة الحسين ، نقل أكثر من مصدر أن الشيخ حسين كان لا يبدأ درسه إلا بعد قراءة التعزية على سيد الشهداء وقراءة المرثية ثم يشرع في درسه . إن هذه الفكرة لتركز على تلقين هذه العقيدة في نفوس تلامذته الذين تسلموا المرجعية من بعده فكانت واضحة فيهم ، ولا شك أن لها ظهوراً في العلماء فضلاً على العوام من الناس الذين استقرت في نفوسهم المحبة الحسينية .
المثال الثاني : كثرة تأليفاته في الشأن الحسيني ، كانت تأليفات الشيخ حسين في الإمام الحسين عليه السلام تمثل منعطفاً مهماً لا يمكن إهماله في دراسة واقع الحركة الحسينية وتأثيراتها على الهوية البحرانية فقد ألف نوعاً من المؤلفات لتقرأ في المناسبات على حسب ورودها في التاريخ على مدى العام فمثلاً ألف كتاب الفوادح أو ( تهذيب الفوادح الحسينية ) على طريقة كتاب الفخري المعروف والذي يشمل سيرة الحسين ومقتله ليقرأ في الليالي والأيام في محرم الحرام كمجالس يجتمع المؤمنون ويتلونها تتضمن الروايات والأشعار بأسلوب أدبي شيق يحفز الأفئدة المتطلعة لنافذة الولاية ويجرها لحريم الحضرة الحسينية فتجوب في رحاب الحسين مما يمثل لها انشداداً نحو أبي عبد الله صلوات الله عليه ، فكانت تلك المجالس المكتوبة تقرأ في أيام وليالي شهر محرم سيما العشرة الأيام الأول ، وكتب أيضاً في سيرة الحسين كتاب يعرف لليوم بكتاب ( المراحل ) وهو يتحدث عن مسير عائلة الحسين حتى وصولهم للمدينة بعد حادثة كربلاء المفجعة وهو يتلى لأربعين الحسين عليه السلام . ومازال أهل البحرين حتى يومنا يعتبرون هذين الكتابين أحد أهم الكتب في إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين حيث يتلى في الحسينيات قبل قراءة الخطيب الحسيني .
ومما جاء في كتاب الفوادح أو تهذيب الفوادح مثلاً قوله رحمه الله : [ فاقتدوا عباد الله بملائكته المقربين ، وانصروه في هذه الدار بالبكاء والحنين ، فإنه قائم مقام الجهاد بين يدي سيد المرسلين ، ولا تصرفوا جواهر هذه الأعمار والدر الثمين ، في غير خدمتهم وطاعة رب العالمين ، واعلموا أن في ذلك كمال الإيمان والدين ] ([4]) . فأمثال هذه الكلمات بسجعها تركت في الوجدان البحراني ذكريات مع كربلاء حفرتها أنامل هذه الشخصية التي ربطت الناس بأهل البيت صلوات الله عليهم وبالحسين عليه السلام .
وللشيخ حسين رحمه الله كتاب آخر اسمه ( مريق الدموع في ليالي الأسبوع ) جعله ليقرأ في كل ليلة من ليالي الأسبوع وهو مجالس مختصرة صاغها في قوالب أدبية رائعة يقول رحمه الله في [ فمزّقوا الأطمار على هذه المصيبة التي كُورت لها شمس النهار ، واسكبوا المدامع الغزار وخدّدوا الخدود بالخدود والأنهار وواروا في قلوبكم تلك الجمار، إن كنتم من الشيعة الأبرار ]([5]) فهذه الكلمات التي يعقب بها بعد ذكر رواية أو خبر في شأن الحسين عليه السلام ،تمثل حالة من التهييج للمشاعر وحثها بحماسة لربطها بمصيبة الحسين كما تمثل حالة من الإثارة وهي مشحونة بالولاء والمحبة والعاطفة للحسين عليه السلام . ويقول في مجلس ليلة الإثنين : [ في الليلة الثالثة من الإسبوع وهي ليلة الإثنين وفيها قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقبض فيها كل إمام وشهيد فمن تبرك بهذا اليوم كان شريكاً لقاتلهم ، وفي بعض الأخبار أن فيه مقتل الحسين عليه السلام ، فيحق لنا أن نتخذه مأتماً مدة الأعمار والسنين كما اتخذوه عليهم السلام ، ومنعوا فيه التبرك ، وجعلوا الصائم فيه شريك ابن مرجانه ، فصبوا فيه المدامع الهتّانة ، وأعلنوا فيه بالنياحة المعلنة وضجّوا ضجيج الثواكل ، وتذكروا خلو تلك الربوع والمنازل ، لعلكم تشاركوهم في تلك الخصال ، وتقيمون ببعض ما أوجبه عليكم الملك المتعال ...]([6]) ، فإنه يحاول دمج المستمع لهذه المجالس بفحوى خطابات الأئمة الطاهرين ورواياتهم من احترام وتقديس الأيام المتصلة بالأئمة ، وهو ماتحوّل في المجتمع البحراني تدريجياً لملامح ولائية وارتباط بشخصيات أهل البيت والإمام الحسين عليه السلام . ويقول : [ فشمّروا الأذيال ، واتخذوا العزاء واسهروا جنح الليالي ، واجعلوا الأحزان من شعاركم فإنه من أعظم الأعمال ، ولا تبخلوا بدموع أهرقتموها على المنازل والأطلال ، وليس بنافع لكم في العقبى والمآل ...]([7]) ، فكانت لهذه الأدبيات بالغ الأثر في تشكيل وتركيبة عقلية الناس ونسج أفكارهم بمحبة أهل البيت ومحبة إقامة مجالسهم والمحافظة عليها وذرف الدموع لعظيم مصابهم وجليل ماوقع عليهم .
فكانت كل ليلة من ليالي الأسبوع تمثل حضوراً لهذه الشخصية في مجالس أهل البحرين يذكرهم بالإمام الحسين عليه السلام وربما كان للشيخ حسين العصفور حضوراً تأسيسياً لمجالس العادة المشتهرة في البحرين إلى يومنا وهي أن تقام مجالس التعزية بشكل يتوزع على الليالي والأيام في الحسينيات فيكون مثلاً يوم الجمعة مخصص بعائلة فلان يقيمون مجلسهم الحسيني ويوم الأربعاء في منزل فلان أو الحسينية الفلانية فهي عادة قديمة دأب عليها أهل البحرين ، وأستطيع الجزم بأن ذكر الحسين عليه السلام لا ينقطع طوال أيام العام من البحرين بهذه المجالس بل حتى أيام العيد أيضاً هناك مجالس تقام في بعض القرى ، وهناك مآتم وحسينيات تقرأ مجالسها طوال العام مثل حسينية ومأتم مدن بالمنامة ، وحسينية ( أبو عقلين ) بالمنامة أيضاً ، بالإضافة للمجالس النسائية التي لا تهدأ في البحرين طوال العام . ولقد كان للشيخ حسين علاقة بتأجيج هذه الحمية والعلاقة بين الناس وبين الحسين عليه السلام .
المثال الثالث : حفظه لحق باقي الأئمة الطاهرين : وأكمل هذا الشيخ مسيرته في التأليف على مستوى كتب المجالس التي تقرأ في تعزية أهل البيت عليهم السلام ، وقد أشار في بعض مقدمات مؤلفاته المشتهرة والمتداولة في البحرين ليومنا هذا على الرغم من كون بعضها مازال مخطوطاً لم يطبع ولكنه متداول أيضاً ونلاحظ مايذكره في مقدمته في بعض كتب وفيّات الأئمة صلوات الله عليهم : [ وبعد فيقول أحوج العباد إلى عفو ربه السبحاني حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني ، إني لما رأيت الناس معرضين عن إقامة بقية مآتم الآل ، بعد مصيبة الطفوف ، وذلك من أعظم الأحوال لشيعتهم ..] ([8]) ، ويظهر من هذا الكلام أنه كان يعالج قضية دينية واجتماعية تمر بها البحرين في تلك الأزمنة من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين ، وهي إعراض الناس عن إقامة مجالس بقية الأئمة الطاهرين واكتفائهم بذكر مصيبة الحسين وكربلاء ، وكان رضوان الله عليه قد شمّر عن ساعديه فألّف في وفيات جميع الأئمة دون استثناء فغيّر ذاكرة شعب بأكمله لينشغل بالأئمة الطاهرين ويصبح الأئمة حاضرين طيلة العام في مجالس أهل البحرين ، فأصبحت البحرين تشيّد المآتم والحسينيات وتذكر المعصومين .
ولقد كان والده الشيخ محمد العصفور الفقيه البحراني قد ألّف أيضاً في وفاة أمير المؤمنين (ع) كما قام بإكمال ( أوراد الأبرار )
أو كتاب ( الأسفار ) الذي ألّفه الشيخ حسن الدمستاني ، وكلها من الكتب المجلسية التي كتبت على منوال المنتخب للشيخ الطريحي ، فكان الشيخ الفقيه حسين العصفور امتداداً لتلك المدرسة ولكنه أضاف الكثير وأشاد المباني سيما في ذكريات باقي الأئمة وهذا أمر تطور في البحرين فيما بعد فأصبحت ذكريات الأئمة لا تنقطع في أوال البحرين .
المثال الرابع : النفس الأدبي والشاعرية : لقد كان رحمة الله عليه شاعراً وقد طعّم بعض مؤلفاته من وفيات الأئمة عليهم السلام بشئ من شعره ولعمري فقد ورد في الأحاديث عنهم صلوات الله عليهم الحث على كتابة الشعر في آل محمد وفي مصائبهم فقد كان مثالاً تطبيقياً للغاية التي من أجلها أمروا شعراءهم برثاء الحسين والأئمة من ولده ، وفي أكثر من مصدر من المصادر التي اعتنت بتراث العلماء ذكرت أن للشيخ رحمه الله ديوان شعر ولا ريب أن ذلك الديوان كان ممتلئاً بشعر الولاية ، وللأسف الشديد فإن هذا الديوان من المفقودات لحد الآن لم نجده في المكتبات التي تعنى بهذا اللون من ألوان التراث وبالمخطوطات وحتى المهتمين بالمخطوطات على حد معرفتي لم يذكروا أنهم يمتلكون نسخة منه فلعل الزمن يرينا يوماً من الأيام نسخة خبأها في إحدى الزوايا فإنها لابد أنها ستكون لوناً آخر لهذه الشخصية البحرانية العلمية والأدبية والفقهية التي يفخر كل بحراني بها . أما على مستوى الأدب النثري فهو واضح في كتاباته الفقهية فضلاً عن الولائية منها فإنها تعج بنثره الرائق ، والحمد لله أولاً وآخرا .
وكتب بيمينه الداثرة
بشار العالي البحراني
1 صفر 1431هـ
لقد ركّز الفقيه البحراني الشيخ حسين الذي هو أحد الكافلين لأيتام آل محمد صلى الله عليه وآله لعقيدة أهل البيت عليهم السلام على مستويين مهمين في البحرين :
المستوى الأول : هو المستوى النظري ، ويتمثل في تأليفاته القيّمة التي ركزت عقيدة الإمامة ومذهب أهل البيت عليهم السلام ومنها على سبيل المثال :
1- كتاب محاسن الإعتقاد ، وهو كتاب مرتب على مباحث المتكلمين ، يذكر أنه كتب كمقدمة لكتابه وموسعته القيمة كتاب السداد ، وهذا الأسلوب مهم في دمج الكتاب العقدي مع البرنامج الفقهي والرسالة العملية للمكلفين فكما أنهم ينهلون الجانب الفقهي ويتعلمون الأحكام الشرعية من الفقيه فهم كذلك يأخذون المسائل العقدية فهي لا تقل أهمية عن المسائل العقدية إن لم تكن أكبر أهمية منها ، وفي هذا التأليف ركز الشيخ على بيان معتقدات الشيعة الإمامية في التوحيد والنبوة والإمامة رابطاً لهذه المباحث المهمة بما يتصل بروايات أهل البيت صلوات الله عليهم . وقد طبع هذا الكتاب وللأسف بعد حذف بعض المطالب فيه ، ليكون أكثر مناسبة مع الرأي العام السائد وهذا يعتبر تحريفاً ، فلنقرأ الشخص كما هو بآرائه ومعتقداته لا أن نخضعه لآرائنا وظروف زماننا .
2- منظومة ( شارحة الصدور ) وهي منظومة راقية في أصول الدين ، على مذاق فقهاء الإمامية جمع فيها بين النقل ، والعقل ، ونقل لي بعض حفدته أنه رأى شرحاً لها لأحد أحفاده أو أولاده من العلماء في ( بوشهر ) والله تعالى العالم. وقد قام بتحقيها وطبعها سماحة الشيخ سعيد بن عباس العصفور الدرازي . وهي لون آخر من تركيز الجانب العقائدي في فكر هذا الرجل الفقيه .
3- كتاب ( القول الشارح والحجة فيما ورد عمن هو على العباد حجة ) وهو كتاب قيم فعلاً في المجال العقائدي وقد طبع بتحقيق حفيده الشيخ حسن بن الشيخ أحمد العصفور ، ولم يطبع كاملاً فالمطبوع هو الجزء الأول ، وفيه عدة مسالك استدلالية في التوحيد ، ومباحث مهمة في الصفات ، وأسماء الله الحسنى ذكر فيه جملة من مسالك الحكماء ، لا يفوته أن يشرّبها بأقوال المعصومين عليهم السلام ، كما ضمّنه شرح أسماء الله الحسنى وما يتعلق بها من مطالب عقائدية مهمة .
فهذه التأليفات لا شك أنها تحفظ جانباً كبيراً من العقيدة على المستوى النظري لا سيما أن بعض مباحثها هي أسس في الفكر الشيعي كمسألة نفي التجسيم ، ومسألة رؤية الله جل وعلا ، وقد ترك مشربه الأخباري أثره في تصانيفه الشريفة فلا يفتأ يطعمها بأحاديث الأئمة المعصومين وبإعتباره المرجع المشار إليه في البحرين فلاشك أن هذه التأليفات تركت أثراً في ذلك الزمان أي القرن الثاني عشر وبدايات القرن الثالث عشر الهجريين على مستوى المدارس والحوزات بإعتباره المرجع المهيمن على كرسي التدريس والرأي والمرجعية على مستوى المكلفين أيضاً وهو ماحفظ المدرسة الإمامية أمام الكثير من التجاذبات في تلك الأزمنة .
المستوى الثاني : الجانب العملي ، لقد كان الشيخ حسين العلامة يتمتع بنوع خاص من فن الإدارة إن صح التعبير ففي زمن تغيب فيه المؤسسة بمعناها الحاضر كان يمارس لوناً قل نظيره من فن إدارة البلاد على المستوى الديني وحتى السياسي فقد كانت البحرين بشعبها الشيعي مثالاً رائعاً للإنقياد للزعامات الدينية وربما يرجع هذا لفكرة الإمامة ووجوبها في الفكر الإمامي منذ زمن الأئمة الذين أمروا الناس وشيعتهم بالرجوع للفقهاء العدول الحائزين على مراتب الورع والتدين .
فكان الشيخ يدير حوزته العلمية في قرية الشاخورة بدروسه التي تعج بطلبة العلوم الدينية ، ومن هناك يدير شؤون الفتيا والقضاء ، كما كان يوزع تلامذته على أنحاء البحرين وقراها كأئمة للجماعة والجمعة وهو ما يستفاد من بعض المخطوطات والإجازات الراجعة لتلك الحقبة المهمة التي تزامنت مع دخول آل خليفة حكام البحرين الحاليين واستيطانهم جزيرة أوال زمن الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة الملقب بالفاتح وابنه الشيخ سلمان فقد كانت مرجعيته في تلك الفترة في أوجها قبل أن يحتل البحرين العمانيون .
لقد كان لشخصية الشيخ حسين ثقلاً في حفظ الكيان الشيعي في البحرين فهو الفقيه المحافظ على حياض الشرع فقهاً وعقيدة . ولا شك فإن هذا له بالغ الأثر في تكوين ثقافة معينة لدى الشعب البحراني آنذاك ، وحتى لو تأملنا لختمه الشريف الذي كان يمثل مثابة توقيع بمفهومنا الحالي فقد اختار حديثاً نبوياً في شأن المولى ابي عبد الله الحسين عليه السلام فختمه الشريف هو ( قال محمد حسين مني ) وهو إشارة لقول النبي صلى الله عليه وآله : ( حسين مني وأنا من حسين ) مما يكرس لحال المحبة والفناء في شخصية الحسين سلام الله عليه ، ولنأخذ بعض الأمثلة في هذا الجانب العملي في فكر وشخصية الشيخ حسين ومدى علاقته بالإمام الحسين صلوات الله عليه :
المثال الأول : الفقيه الذي يلقن تلامذته محبة الحسين ، نقل أكثر من مصدر أن الشيخ حسين كان لا يبدأ درسه إلا بعد قراءة التعزية على سيد الشهداء وقراءة المرثية ثم يشرع في درسه . إن هذه الفكرة لتركز على تلقين هذه العقيدة في نفوس تلامذته الذين تسلموا المرجعية من بعده فكانت واضحة فيهم ، ولا شك أن لها ظهوراً في العلماء فضلاً على العوام من الناس الذين استقرت في نفوسهم المحبة الحسينية .
المثال الثاني : كثرة تأليفاته في الشأن الحسيني ، كانت تأليفات الشيخ حسين في الإمام الحسين عليه السلام تمثل منعطفاً مهماً لا يمكن إهماله في دراسة واقع الحركة الحسينية وتأثيراتها على الهوية البحرانية فقد ألف نوعاً من المؤلفات لتقرأ في المناسبات على حسب ورودها في التاريخ على مدى العام فمثلاً ألف كتاب الفوادح أو ( تهذيب الفوادح الحسينية ) على طريقة كتاب الفخري المعروف والذي يشمل سيرة الحسين ومقتله ليقرأ في الليالي والأيام في محرم الحرام كمجالس يجتمع المؤمنون ويتلونها تتضمن الروايات والأشعار بأسلوب أدبي شيق يحفز الأفئدة المتطلعة لنافذة الولاية ويجرها لحريم الحضرة الحسينية فتجوب في رحاب الحسين مما يمثل لها انشداداً نحو أبي عبد الله صلوات الله عليه ، فكانت تلك المجالس المكتوبة تقرأ في أيام وليالي شهر محرم سيما العشرة الأيام الأول ، وكتب أيضاً في سيرة الحسين كتاب يعرف لليوم بكتاب ( المراحل ) وهو يتحدث عن مسير عائلة الحسين حتى وصولهم للمدينة بعد حادثة كربلاء المفجعة وهو يتلى لأربعين الحسين عليه السلام . ومازال أهل البحرين حتى يومنا يعتبرون هذين الكتابين أحد أهم الكتب في إحياء ذكر أبي عبد الله الحسين حيث يتلى في الحسينيات قبل قراءة الخطيب الحسيني .
ومما جاء في كتاب الفوادح أو تهذيب الفوادح مثلاً قوله رحمه الله : [ فاقتدوا عباد الله بملائكته المقربين ، وانصروه في هذه الدار بالبكاء والحنين ، فإنه قائم مقام الجهاد بين يدي سيد المرسلين ، ولا تصرفوا جواهر هذه الأعمار والدر الثمين ، في غير خدمتهم وطاعة رب العالمين ، واعلموا أن في ذلك كمال الإيمان والدين ] ([4]) . فأمثال هذه الكلمات بسجعها تركت في الوجدان البحراني ذكريات مع كربلاء حفرتها أنامل هذه الشخصية التي ربطت الناس بأهل البيت صلوات الله عليهم وبالحسين عليه السلام .
وللشيخ حسين رحمه الله كتاب آخر اسمه ( مريق الدموع في ليالي الأسبوع ) جعله ليقرأ في كل ليلة من ليالي الأسبوع وهو مجالس مختصرة صاغها في قوالب أدبية رائعة يقول رحمه الله في [ فمزّقوا الأطمار على هذه المصيبة التي كُورت لها شمس النهار ، واسكبوا المدامع الغزار وخدّدوا الخدود بالخدود والأنهار وواروا في قلوبكم تلك الجمار، إن كنتم من الشيعة الأبرار ]([5]) فهذه الكلمات التي يعقب بها بعد ذكر رواية أو خبر في شأن الحسين عليه السلام ،تمثل حالة من التهييج للمشاعر وحثها بحماسة لربطها بمصيبة الحسين كما تمثل حالة من الإثارة وهي مشحونة بالولاء والمحبة والعاطفة للحسين عليه السلام . ويقول في مجلس ليلة الإثنين : [ في الليلة الثالثة من الإسبوع وهي ليلة الإثنين وفيها قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وقبض فيها كل إمام وشهيد فمن تبرك بهذا اليوم كان شريكاً لقاتلهم ، وفي بعض الأخبار أن فيه مقتل الحسين عليه السلام ، فيحق لنا أن نتخذه مأتماً مدة الأعمار والسنين كما اتخذوه عليهم السلام ، ومنعوا فيه التبرك ، وجعلوا الصائم فيه شريك ابن مرجانه ، فصبوا فيه المدامع الهتّانة ، وأعلنوا فيه بالنياحة المعلنة وضجّوا ضجيج الثواكل ، وتذكروا خلو تلك الربوع والمنازل ، لعلكم تشاركوهم في تلك الخصال ، وتقيمون ببعض ما أوجبه عليكم الملك المتعال ...]([6]) ، فإنه يحاول دمج المستمع لهذه المجالس بفحوى خطابات الأئمة الطاهرين ورواياتهم من احترام وتقديس الأيام المتصلة بالأئمة ، وهو ماتحوّل في المجتمع البحراني تدريجياً لملامح ولائية وارتباط بشخصيات أهل البيت والإمام الحسين عليه السلام . ويقول : [ فشمّروا الأذيال ، واتخذوا العزاء واسهروا جنح الليالي ، واجعلوا الأحزان من شعاركم فإنه من أعظم الأعمال ، ولا تبخلوا بدموع أهرقتموها على المنازل والأطلال ، وليس بنافع لكم في العقبى والمآل ...]([7]) ، فكانت لهذه الأدبيات بالغ الأثر في تشكيل وتركيبة عقلية الناس ونسج أفكارهم بمحبة أهل البيت ومحبة إقامة مجالسهم والمحافظة عليها وذرف الدموع لعظيم مصابهم وجليل ماوقع عليهم .
فكانت كل ليلة من ليالي الأسبوع تمثل حضوراً لهذه الشخصية في مجالس أهل البحرين يذكرهم بالإمام الحسين عليه السلام وربما كان للشيخ حسين العصفور حضوراً تأسيسياً لمجالس العادة المشتهرة في البحرين إلى يومنا وهي أن تقام مجالس التعزية بشكل يتوزع على الليالي والأيام في الحسينيات فيكون مثلاً يوم الجمعة مخصص بعائلة فلان يقيمون مجلسهم الحسيني ويوم الأربعاء في منزل فلان أو الحسينية الفلانية فهي عادة قديمة دأب عليها أهل البحرين ، وأستطيع الجزم بأن ذكر الحسين عليه السلام لا ينقطع طوال أيام العام من البحرين بهذه المجالس بل حتى أيام العيد أيضاً هناك مجالس تقام في بعض القرى ، وهناك مآتم وحسينيات تقرأ مجالسها طوال العام مثل حسينية ومأتم مدن بالمنامة ، وحسينية ( أبو عقلين ) بالمنامة أيضاً ، بالإضافة للمجالس النسائية التي لا تهدأ في البحرين طوال العام . ولقد كان للشيخ حسين علاقة بتأجيج هذه الحمية والعلاقة بين الناس وبين الحسين عليه السلام .
المثال الثالث : حفظه لحق باقي الأئمة الطاهرين : وأكمل هذا الشيخ مسيرته في التأليف على مستوى كتب المجالس التي تقرأ في تعزية أهل البيت عليهم السلام ، وقد أشار في بعض مقدمات مؤلفاته المشتهرة والمتداولة في البحرين ليومنا هذا على الرغم من كون بعضها مازال مخطوطاً لم يطبع ولكنه متداول أيضاً ونلاحظ مايذكره في مقدمته في بعض كتب وفيّات الأئمة صلوات الله عليهم : [ وبعد فيقول أحوج العباد إلى عفو ربه السبحاني حسين بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الدرازي البحراني ، إني لما رأيت الناس معرضين عن إقامة بقية مآتم الآل ، بعد مصيبة الطفوف ، وذلك من أعظم الأحوال لشيعتهم ..] ([8]) ، ويظهر من هذا الكلام أنه كان يعالج قضية دينية واجتماعية تمر بها البحرين في تلك الأزمنة من القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين ، وهي إعراض الناس عن إقامة مجالس بقية الأئمة الطاهرين واكتفائهم بذكر مصيبة الحسين وكربلاء ، وكان رضوان الله عليه قد شمّر عن ساعديه فألّف في وفيات جميع الأئمة دون استثناء فغيّر ذاكرة شعب بأكمله لينشغل بالأئمة الطاهرين ويصبح الأئمة حاضرين طيلة العام في مجالس أهل البحرين ، فأصبحت البحرين تشيّد المآتم والحسينيات وتذكر المعصومين .
ولقد كان والده الشيخ محمد العصفور الفقيه البحراني قد ألّف أيضاً في وفاة أمير المؤمنين (ع) كما قام بإكمال ( أوراد الأبرار )
أو كتاب ( الأسفار ) الذي ألّفه الشيخ حسن الدمستاني ، وكلها من الكتب المجلسية التي كتبت على منوال المنتخب للشيخ الطريحي ، فكان الشيخ الفقيه حسين العصفور امتداداً لتلك المدرسة ولكنه أضاف الكثير وأشاد المباني سيما في ذكريات باقي الأئمة وهذا أمر تطور في البحرين فيما بعد فأصبحت ذكريات الأئمة لا تنقطع في أوال البحرين .
المثال الرابع : النفس الأدبي والشاعرية : لقد كان رحمة الله عليه شاعراً وقد طعّم بعض مؤلفاته من وفيات الأئمة عليهم السلام بشئ من شعره ولعمري فقد ورد في الأحاديث عنهم صلوات الله عليهم الحث على كتابة الشعر في آل محمد وفي مصائبهم فقد كان مثالاً تطبيقياً للغاية التي من أجلها أمروا شعراءهم برثاء الحسين والأئمة من ولده ، وفي أكثر من مصدر من المصادر التي اعتنت بتراث العلماء ذكرت أن للشيخ رحمه الله ديوان شعر ولا ريب أن ذلك الديوان كان ممتلئاً بشعر الولاية ، وللأسف الشديد فإن هذا الديوان من المفقودات لحد الآن لم نجده في المكتبات التي تعنى بهذا اللون من ألوان التراث وبالمخطوطات وحتى المهتمين بالمخطوطات على حد معرفتي لم يذكروا أنهم يمتلكون نسخة منه فلعل الزمن يرينا يوماً من الأيام نسخة خبأها في إحدى الزوايا فإنها لابد أنها ستكون لوناً آخر لهذه الشخصية البحرانية العلمية والأدبية والفقهية التي يفخر كل بحراني بها . أما على مستوى الأدب النثري فهو واضح في كتاباته الفقهية فضلاً عن الولائية منها فإنها تعج بنثره الرائق ، والحمد لله أولاً وآخرا .
وكتب بيمينه الداثرة
بشار العالي البحراني
1 صفر 1431هـ
الهوامش والمصادر :
([1]) الشيخ الطبرسي / الإحتجاج ج1 : 8
([2]) الشيخ الطبرسي / الإحتجاج ج1 : 7 ، ومعنى الناشب هو الواقع فيما لا مخلص منه
([3]) شرح أصول الكافي للمازندراني ج9 : 275
([4]) تهذيب الفوادح : 105 ط حديثة .
([5]) مريق الدموع : 26 ط الرابعة ، وهو مطبوع تحت عنوان مريق الدموع في مراثي أبي عبد الله الحسين عليه السلام أيام الأسبوع .
([6]) مريق الدموع ط : 31
([7]) مريق الدموع ط: 68
([8]) من مخطوط وفاة الإمام زين العابدين : ورقة 1 ، مكتبة كاتب المقال للمخطوطات