الاثنين، 25 أبريل 2011

الأشراف في القرنين التاسع والعاشر

الشجرة الموسوية القارونية في البحرين ( الحلقة السادسة )


تنويه : السادة القارونيون وجودهم أقدم من القرنين التاسع والعاشر ولكننا نؤرخ بحسب الوثائق ، وليس القرائن ، وإلا فالقرائن تفيد أن وجودهم يمتد لأكثر من القرن الثامن ولحين تكامل البحث والمصادر ستكون العناوين مختلفة

المقدمة :
وهي من أقدم الأشجار الحسينية الموسوية في البحرين ، والأكثر انتشاراً في ربوع جزيرة أوال ، وخصوصاً في قرى ومناطق أوال ، ومنها تفرعت أشجار كثيرة ، في الخليج ، مثل ( أبوظبي ) ، و (دبي) ، و( بندر لنجة) ، و(القطيف) ، و(الكويت) ، وربوع إيران على سعتها ، وربوع العراق ، وسنتعرض في طي البحث إلى هذه الإنتماءات بعونه تعالى ، والبحث يقع في عدة محاور :-

المعقّبون من ذرية الإمام موسى بن جعفر (ع).

تنتمي هذه السلالة الطاهرة ، بل وأغلب السادة الأشراف في البحرين، إلى الإمام السابع من أئمة أهل البيت عليهم السلام ، موسى الكاظم ، بن جعفر الصادق ، بن محمد الباقر، بن علي بن الحسين زين العابدين ، بن الحسين السبط الشهيد ، بن علي بن أبي طالب ، وابن فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين ابنة سيد الكائنات النبي محمد صلى الله عليه وآله ، فمن هذه الصفوة يذكر علماء النسب في مصنفاتهم المعتبرة والمعول عليها أن للإمام موسى بن جعفر من الذرية من بارك الله في نسلهم حتى ملؤوا بقاع الأرض بأنفاسهم المباركة .
ويعتبر الإمام موسى الكاظم (ع) من أكثرالأئمة ذرية ، فبحسب مانقله صاحب المجدي في أنساب الطالبيين حكاية عن الأشناني تسعة وخمسون ولداً ، موزّعين بين الذكور والإناث بين سبعة وثلاثين بنتاً ، واثنين وعشرين ذكراً . وفي النفحة العنبرية لليماني الموسوي نقل أن عدد الذكور ثلاثة وعشرون ، وعليه يكون المجموع ستين ولداً بين ذكر وأنثى . وهو ما ذكر في كتاب ( عمدة الطالب ) .
إلا أن مايهم علماء النسب هو ( الولد الذكر) فإن كان له أولاد ذكور فيُقال له ( مُعقّب ) ، وإن كانت ذريته من الإناث يقال له ( مئناث ) ، وإن مات صغيراً يقال له ( دارج ) أو مات ولم يكن له ولد أو كان له ولد لم ينجب يقال له ( منقرض ) على مايذكره علماء الأنساب في مؤلفاتهم .

واستطراداً للفائدة نقول : إن المعقبين من أولاد الإمام موسى بن جعفر عليه السلام على ماذكره الفخر الرازي في كتابه ( الشجرة المباركة في أنساب الطالبية ) أحد عشر ، وأما الذين اختلفوا في أعقابهم فهم أربعة ، وأما الذين اتفقوا على أنهم ما أعقبوا فهم عشرة ، وعليه فبحسب نقل الرازي يكون الأولاد الذكور من الإمام موسى بن جعفر خمسة وعشرين ذكراً ، وهو خلاف مانقلناه سابقاً عن صاحب المجدي ، وعن غيره أيضاً وهنا ننقل ما اتفق عليه النسابون _ بحسب الفخر الرازي _ في ذكر المعقبين من أولاد الإمام موسى بن جعفر وهم كالتالي : (1) علي الرضا _عليه السلام _ (2) إبراهيم الأصغر (3) العباس (4) إسماعيل (5) محمد (6) عبد الله (7) عبيد الله (8) الحسن (9) جعفر (10) إسحق (11) الحمزة . وأما صاحب النفحة العنبرية فقد أخرج من هذه القسمة الحسن ، فعنده الذين أعقبوا بغير خلاف عشرة فقط . وأما العقيقي صاحب كتاب المعقبين من ولد أمير المؤمنين ، فقد ذكر أربعة عشر ذكراً للإمام الكاظم ، ويبدو أنه جمع بين عنواني ( المعقبين بلا خلاف بين النسابين ) و ( المعقبين الذين اختلف فيهم ) ، وهذا مايجعل الأرقام غير ثابتة من مصدر لآخر .

من هو السيد محمد ( العابد ) ؟

السيد محمد بن موسى بن جعفر والذي يلقب بـ( العابد ) ممن اتفق علماء النسب على كونه من المعقبين من أولاد موسى بن جعفر ، وكان زاهداً ، عابداً . ونقل الشيخ المفيد في إرشاده : كان محمد بن موسى من أهل الفضل والصلاح ، ونقل عنه ( وكان ليله كله يتوضأ ويصلي ) ، وتوفي محمد بن موسى في شيراز ودفن بجانب أخيه أحمد الذي يلقبه الإيرانيون بـ( شاه جراغ ) أي ملك النور ، ومن هذا السيد الجليل يتفرع الكثير من السادة الأشراف في البحرين وغير البحرين ، وإن كانت هناك فروع من غير هذا السيد _ في البحرين _ كما سيأتي في محله إن شاء الله تعالى .

تعليق على عقب السيد محمد العابد

في عمدة الطالب لإبن عنبة يقول [ والعقب من محمد العابد بن موسى الكاظم عليه السلام في إبراهيم المجاب وحده ومنه في ثلاثة رجال ....] وفي تحفة الأزهار لإبن شدقم أن عقب محمد العابد في إبراهيم المجاب ومحمد الزاهد نقلاً عن السيد في الشجرة _ بحسب تعبيره _ قال : واقتصر السيد علي تاج الدين بأبي محمد إبراهيم المجاب ، على أن العمري النسابة صاحب كتاب المجدي يقول أن أولاد محمد بن الكاظم (ع) ثلاثة وهم جعفر أولد وانقرض ، ومحمد الزاهد النسابة رحمه الله مقل ، وإبراهيم الضرير الكوفي منه عقبه . وكذّب السيد النسابة الأعرجي في كتاب مناهل الضرب من ينتسب للعابد من غير ابنه إبراهيم ، وذكر مثالاً ، ومن ضمن كلامه في عقب محمد العابد أنه قال : [ وعقبه من ابنه إبراهيم المجاب وحده ، ومن انتسب إليه من غيره مبطل لامحالة ] والمتحصل أن عقب محمد العابد منحصر في إبنه إبراهيم والمعروف بالمجاب .

ومن ناحية ثانية وهو مايهم بحثنا بشكل أكبر هو عقب إبراهيم المجاب فأكثر المصادر تشير إلى أن عقب إبراهيم المجاب في ثلاثة وهم ، محمد الحائري ،و أحمد بـ( قصر ابن هبيرة ) ، وعلي بـ( السيرجان ) من (كرمان ) وهو الموجود في أغلب كتب النسب مثل / ابن عنبة في عمدة الطالب ، وابن شدقم في تحفة الأزهار ، والشجرة المباركة للفخر الرازي مع اختلاف في عدد ذرية إبراهيم الضرير واختلاف في ألقابهم ومناطقهم لايضر ببقاء أصل الأسماء إلا أن الفخر الرازي قد أضاف إسماً لأبناء إبراهيم المجاب وهو موسى الأرجاني ، وقال : كلهم بـ(سيرجان) ، بالإضافة إلى أنه لم يسم محمد بـ(ـالحائري ) بل لقبه بلقب آخر وهو محمد قشير . ووصف الفخر الرازي في ختام حديثه عن هذا الفرع بقوله : وأما موسى وأحمد ففي عقبهما قلة . _ انتهى _ وذكر صاحب كتاب النفحة العنبرية وهو من النسابين من القرن التاسع مثل كلام الرازي من قوله أن أولاد إبراهيم المجاب أربعة وذكر أسماءهم مجردة كما هو الحال من كلام الرازي .
ثم إذا نزلنا من إبراهيم المجاب إلى إبنه أحمد الذي ذكروا أنه بسيرجان وهي إحدى مدن إيران تسكت الكثير من الكتب عن متابعة هذه الذرية المباركة سوى أن البعض يذكر أسماء متفرقة لا بشكل مفصل عن المعقبين والمنقرضين منهم ، وبالتالي يفقد البحث عنصراً منقطعاً يحتاج وصله إلى مشقة ومتابعة كل كتب الأنساب وتحصيل المعلومة منها وهو أمر شاق في أغلب الأحايين . فعندما يصلون إلى أحمد ابن إبراهيم بن محمد بن موسى الكاظم (ع) يذكرون ابنه ( حمزة ) وجملة متفرقة من ذراريه ، وقل أن يذكروا حسيناً الذي هو جد للسادة القارونيين ، إلا أننا نقول إن عدم تعرضهم للذرية لاينفي اتصالها نسباً بالسيد أحمد لأنهم لم يذكروا أنه كان منقرضاً بل له ذرية إلا أنه مقل ، بالإضافة لوفرة القرائن على بقاء الذرية ، وكذلك احتفاظ هذه السلالة بوثائق يقرها النسابون كل ذلك يشكل اطمئناناً لصحة هذا النسب ولعلنا نقع على مصدر من كتب الأنساب _ المختصة _ يرفع عنا عناء البحث الجزئي ليوصلنا للمعلومة مباشرة .


التسلسل من السيد محمد ( العابد ) إلى ( القارون )

وهنا نذكر تسلسل هذا النسب الطاهر من محمد العابد ابن موسى بن جعفر حتى السيد ( علي الملقب بقارون ) ومنه تتفرع هذه الدوحة المباركة والذرية الطاهرة تاركين بقية الفروع التي تتفرع من هذه الغصون وإلا لخرج البحث عن موضوعه وتهنا عن مقصدنا الذي ننشده من هذه الكتابة فنقول والله المستعان . بعد مراجعة أكثر من شجرة نسب ومصدر، نستطيع أن نضع هذا التسلسل النسبي من السيد محمد بن موسى الكاظم (ع) وصولاً إلى السيد علي الملقب بـ( قارون ) الجد الأعلى للأسرة القارونية في البحرين .
موسى بن جعفر الكاظم (ع) = محمد العابد = إبراهيم ( الملقب بالمجاب ) = أحمد ( الملقب بسيد السادات) = حسين = جعفر = علي = موسى = حسين = محمد = حمزة = يوسف = أحمد ( محمد بحسب الشجرة السارية ) = حسين مصري = محمد ( الملقب بالمرتضى ) = سليمان = ناصر = علي = سليمان = علي( الملقب بقارون بحسب المحقق تبريزيان ) .

التعليق على هذه السلسلة :
1- يتفق عليها كل من [ مشجر السادة الساريين ، كتاب شجرة النسب العلوية والأسرة الصالحية ، ورقة بهذه النسبة اتصالاً بالإمام الكاظم عليها تصحيح السيد المرعشي وختمه ، فارس تبريزيان الذي حقق في نسب السيد هاشم البحراني في كتاب : العلامة السيد هاشم البحراني ] فكل هذه المصادر متفقة على هذه السلسلة . إلا أنه في إسم (علي) بن ناصربن سليمان لم يرد في شجرة الساريين ، ونقله الشيخ فارس عن مصدرين آخرين هما ،كتاب جامع الأنساب للروضاتي ، وكتاب الروضة النضرة للطهراني . ويبدو أنه سقطٌ سها عنه المشجّر، في الأسرة السارية .
2- بعد مراجعة دقيقة لكتاب [ المشجر الوافي بطبعته المتأخرة ج1 ، القسم الأول ] أورد ماسقط وأسلفنا ذكره في النقطة الأولى ، إلا أنه لديه سقط آخر ، فقد ذكر السلسلة هكذا ، يوسف = حسين المرتضى = محمد = سليمان . وهو اشتباه منه بعد مراجعة أكثر الأشجار ويبدو أنه اعتمد مشجراً فيه سقط ولحين أطلع على مصدره لا يمكن أن أبت وأقطع بشئ والله تعالى العالم .

من هو قارون وماهو سبب تلقيبه ؟

هناك خلاف في المصادر حول الشخصية التي لقبت بـ(قارون) ومنه انتقل اللقب إلى بقية الفروع التي دونت أنسابها بلقب القاروني ، ويمكن أن نستخلص هذه الآراء الأربعة وهي :
1- الجد الثالث للسيد هاشم [ علي بن سليمان بن علي ] وهو رأي الشيخ تبريزيان . في كتابه عن حياة السيد هاشم
2- الجد الخامس للسيد هاشم [ علي بن ناصر بن سليمان ] وهو رأي آية الله المرعشي بحسب المخطوط الذي وثقه السيد رحمة الله عليه وهو عند أحد أحفاد السيد هاشم .
أما السيد محمد صالح في كتابه [ شجرة النسب العلوية ] فقد تردد عنده إطلاق لقب ( قارون الزاهد) على شخصيتين وهما بحسب تردده دون ترجيح لأحد منه وهما :
3- الجد السابع للسيد هاشم وهو [ سليمان بن محمد بن حسين] كما في كتاب شجرة النسب العلوية .
4- الجد الرابع للسيد هاشم وهو [ سليمان بن علي بن ناصر ] كما في كتاب شجرة النسب العلوية .
فنحن إذاً بين أربعة احتمالات حول من يكون صاحب هذا اللقب الذي من خلاله التصق في شجرة هذه السلالة الموسوية .

الرأي المختار في المسألة

وأما أنا وبحسب بحثي واطلاعي القاصر فأميل للقول بأن الذي لُقب بقارون هو الجد السابع للسيد هاشم البحراني وهو ( سليمان بن محمد بن حسين ) ، وذلك لعدة اعتبارات وهي :
1- كون هذا الإحتمال ذكره السيد محمد صالح ضمن بحثه وتنقيبه وهو ابن هذه الشجرة وإن لم يكن قد اختاره بشكل دقّي إلا أنه قد ذكر هذا الإحتمال فهو وراد .
2- أن السيدين الجليلين ( ناصر بن سليمان ) و ( محمد بن سليمان ) وهما متقدمان على كل من في هذه السلسلة _ ممن وردوا ضمن الإحتمالات _ وقد لقبا بلقب القاروني كما يظهر ذلك جلياً في تتبع ديوان أبي البحر الخطي وحتى لما راجعت النسخ الخطية القديمة وجدت لقب القاروني قد التصق بهذين السيدين دون من قبلهما في السلسلة ، والتصق فيمن جاء بعدهما في السلسلة ، وحيث كانت وفاتهما بين ( 1008هـ _ 1011هـ) بحسب الروايات الواردة فبالتالي هما قد تلقبا بهذا اللقب فلا مناص من كون والدهما هو الذي لُقب بهذا اللقب وإلا للزم أن يكون هذا اللقب لأحدهما دون الآخر وبالتالي فالأصح أن يكون السيد سليمان هذا هو الذي لُقب بلقب ( القارون ) ومنه أخذت الأسرة لقبها _ والله العالم _

ولا يبعد أن أحفاده من بعده قد سلكوا مسلكه في الزهد فكان اللقب أشد التصاقاً بهم وبالتالي حصل لنا التعدد في لصق اللقب بأحد هذه السلسلة الكريمة .
أما سبب التصاق اللقب بهذا السيد فهو لشدة زهده في الدنيا ، وعدم تملكه شئ من حطامها ، كما يطلقون أحياناً كلمة ( بصير) على الرجل الكفيف إعلاءاً لشأنه وتبياناً لحاله عن طريق ذكر خلاف ماهو عليه ، أو للإشارة والتدليل على حاله ، فلقب هذا السيد بلقب ( قارون) للتدليل على خلاف حال قارون الذي اكتنز المال ، وفي بعض المصادر تسميه بـ( قارون المال) دون الإقتصار على كلمة قارون . وفي بعضها ( القارون الزاهد العابد) ، وهذا اللقب شائع على هذه الأسرة ومثبت في المشجرات فلا داعي لإثباته كثيراً فهو مشهور. وأياً كان صاحب اللقب فعدم معرفته لا يضر هذه الشجرة ، فشجرة النسب سليمة وصحيحة ومثبتة بالأدلة ، وهذه الحيثية لاتضر بأصل وفروع ماهو مدون في كتب الأنساب لأنها لقب زائد على الأسماء المتفق عليها .
26 أبريل 2011م
_ والحمد لله أولاً وآخرا وللحديث بقية _

الأحد، 24 أبريل 2011

حقائق قرآنية في المدد الإلهي : المحاضرة الثانية

المدد الإلهي في موقعة بدر
بسم الله الحي الذي لايزول ، والصلاة على النبي الهادي للحق بفطرة العقول ، وعلى آله مصابيح الدجى ، وسراة الأنام في الخطب المهول ، أما بعد فنواصل حديثنا عن حقائق القرآن وإشراقاته .
يقول الحق تبارك وتعالى : [ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلةً فاتقوا الله لعلكم تشكرون ] آل عمران : 123 .
في هذه الآية يذكّر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين في ذلك الزمان ، وفي هذا الزمان أيضاً ، وفي كل الأزمنة عن مسألة مهمة وغاية في الأهمية وهي أن النصر الإلهي أعده الله ليهزم كل المقاييس ، ويخطّئ آراء كل المحللين السياسيين ، وتفكيكهم لرموز اللعبة السياسية ، ليقول لهم أن إرادتي وما أريده هو وحده الذي سيكون على الواقع ولن تكون هناك إرادة متحققة في الواقع لأي قوة من القوى مهما بلغت .
وكانت وقعة بدر وهي أولى معارك المسلمين بكل المقاييس معركة فريدة من نوعها ، فأطرافها غير متكافئة ولو جعلنا من أنفسنا محللين سياسيين كما هو الحال اليوم لقلنا أن الرهان خاسر وهي حرب خاسرة ، ولربما يقول آخرون أن هناك فرق بين بدر وواقعنا في الأمة الإسلامية ، فتلك معركة قد هيّأ الله لها سبل النصر ، وهي معركة المسلمين الأولى فإرادة الله هناك مقترنة بمصلحة إلهية وهي بقاء الدين وبقاء أصله وصيانة له من الإجتثاث أعطى الله المؤمنين النصر ، وهذه الأمور غير متحققة في باقي الأزمنة .
ونقول : إن أصل المسألة هي نصر دين الله وإعلاء كلمته ، وباقي الأمور هي زيادات تختلف بها الأزمنة والأمكنة والمواضيع ، فالعبرة بالأصل ، فلن يتخلى الله عن عباده في زمن وينصرهم في زمن وإلا للزم أن تلغى جملة من العقائد الإلهية لا سمح الله وهذه الأمور يقدرها الله سبحانه وتعالى . وما يهمنا هو أن واقعة بدر كانت درساً إلهياً لقنه الله للطرفين على حد سواء للمؤمنين يقول أن الله دائماً معكم بقوته ونصره ، ولأعداء الله ليقول لهم أنكم بقوتكم وجبروتكم لن تصنعوا نصراً ولن تذلوا أوليائي وأحبائي ، إذاً فهي حرب أولياء الله وأعداء الله ، وبهذا المقياس تختلف الموازين .
يحدثنا التاريخ أنه في يوم بدر حيث لم تتكافأ الضفتين ، فجيش الكفر مدجج بجيوش متحالفة من القبائل والأعراب ، والإمكانيات كانت مختلفة ، والتجهيزات بحسب ذلك الزمان كانت في أعلى مستوياتها بمعنى أن المقدمات كانت تشير لغلبة طرف الكفر في معادلة الصراع بحسب المنطق . أما جيش الله الذي لم يكن يمتلك العتاد ولم يكن يمتلك الخيول والسيوف والتجهيزات المهمة للقتال فهو بحسب المعادلة المنطقية يصعب عليه أن ينتصر ميدانياً ، لكن جيش الله يمتلك في قلبه ( الله ) وهو بالتالي يمتلك المصدر المهم الذي يغير كل معادلات العالم وكل أسس المنطق ومداخلاته في المعادلة .
وحيث تنقل لنا المصادر موقفاً يختصر علينا الكثير من المسير فيقول المحدّث : [ لما كان يوم ‏ ‏بدر نظر النبي ‏ ‏صلى الله عليه وآله ‏إلى أصحابه وهم ثلاث مائة ونيف ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل النبي ‏ ‏صلى الله عليه وآله ‏القبلة ثم مدّ يديه وعليه رداؤه وإزاره ثم قال ‏ ‏اللهم أين ما وعدتني اللهم أنجز ما وعدتني اللهم إنك إن تُهلك هذه ‏ ‏العصابة ‏ ‏من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا ] . اللهم إن هؤلاء آمنوا بك وفعلوا ما أمرتهم وهيئوا ما أمرت به ونحن ننتظر وعدك وننتظر أن تنجز لنا ماوعدتنا . فبذهابهم وبهزيمتهم تعلى راية الكفر وبهزيمتهم لن يكون ثمة مؤمن في الأرض ، وبعدم انتصارهم لن يكون عابد يعبدك على الأرض ، فهم ينتظرون نصرك وتأييدك . فكان النصر حليفهم رغم كل التحديات . هذه المعادلة هي التي تسحق الكثير من التكهنات لتضع أمام أعين العالم المعادلة الإلهية في تحقيق النصر . ولقد نصركم الله ببدر وأنتم ( أذلة ) كانت قريش تعتبر هؤلاء أمام عظمتها وجبروتها أذلاء ، وكانت الإمكانيات ضعيفة ولكن ليس هناك أمر صعب على الله سبحانه وتعالى الذي حول ضعف هؤلاء إلى انتصار وجراحهم على مدى سنوات طويلة من تعذيب الكفار لهم في مكة ومحاولة إذلالهم وردعهم عن دينه تعالى حولها إلى انتصار يبهر العالم ويحدث به التاريخ ويخلده الله في كتابه ليقرأه كل مسلم وينشده كل مسلم ويهتف به كل مؤمن يعيش ضعفاً أو استضعافاً ليكون منتصراً ، يقول الحق تبارك وتعالى : [ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ] القصص :5، هذه المعادلة مضطردة حتى قيام الساعة وليس عنها تحول ولاتبدّل ، وتكون الغلبة دائماً لأهل الله وخاصته ، وأهل توحيده الذين عرفوه واهتدوا إليه ، وكان الناس في بعد عنه وفي ضلالاتهم يعمهون ، انتصر المؤمنون و هؤلاء لا يتركهم الله ولا يتخلى عنهم فهو معهم لأنهم كانوا معه دائماً .
والحمد لله أن جعل إشراق أنواره علينا أملاً لا ينقطع عن فهم نصره ، اللهم عجل لوليك الفرج ، وأمددنا بلطف عنايتك وارحم المؤمنين وأمددهم بقوتك يارب ( محاضرة ألقيت في أوائل أبريل )

الأربعاء، 6 أبريل 2011

كلمات من الحقائق القرآنية : المحاضرة الأولى

حقائق القرآن بين النظريات والقوانين

بسمه تعالت أسماؤه المجيدة ، والصلاة على الساكن في العرش من الوجود ، وعلى آله الأتقياء الذين صانهم الله في ملامح الخلود ، وبعد : فقد يتصور الكثير من المسلمين الذين ماعرفوا من الإسلام إلا الصورة وابتعدوا عن المضمون والحقائق الجوهرية لهذا الكتاب العظيم ، أن القرآن هو مجرد نظريات يتفوه بها الإسلاميون في تحركاتهم ويتشبثون بها في حروبهم الفكرية وغيرها ، على أننا لو رجعنا لحقيقة القرآن الكريم وحقيقة آياته المباركة لوجدناها تبتعد عن جو النظريات لتدخل إلى عمق الحقائق ، ولذلك حين يستند الإسلاميون في حركاتهم لآيات الكتاب العظيم فإنهم يستهدون بنور حقائق الله بوعده ، ووعيده وقبل الغوص في الآيات القرآنية ، نلفت الإنتباه على أن المراد من الإسلاميين في هذه المحاضرة هم من حرّكهم الوعيُ الدينيُ الأصيلُ النابعُ من الفطرة النقية الغير ملوثة بشوائب السياسات العفنة والتي تحركها أيدي الطواغيت في الأرض والذين أفرغوا الدين من محتواه ليجعلوه ( لعقاً على ألسنتهم ) كما يقول الإمام الحسين عليه السلام . سنحاول أن نعيش مع كتاب الله وهو يستجلي الواقع الإنساني المرتبط بهذه الحياة في كل تفاصيلها وزواياها ليرسم لهذا المخلوق خطوطه العريضة ، وواقعه الممنهج على أنه حقائق وليس بنظريات قابلة للتوهم والنقض بغيرها ، ومن خلالها يعيش المسلم يومه بكل تفاصيله ، وصراعه بكل تطلعاته ، وغده بكل إشراقاته ، حيث يبقى القرآن الكريم ربيعاً دائماً لحياة الإنسان ، وحتى لو حاول اليأس أن ينخر في طريقه ليحبطه تارة أو يتغلغل لمفاهيمه تارة أخرى فسيبقى القرآن هو الحقيقة التي لا مجال للبس فيها وهذه مجموعة أو قل باقة من الورود الإلهية لك أيها المسلم المؤمن الذي ينتظر الصحف لتضيف لتكهناته شيئاً هنا ، أو يتابع قناة لتضيف ليأسه بارقة أمل هناك ، أنت أمام كتاب الله وذكره تعالى الذي وصفه سبحانه بقوله : [ الذين آمنوا وتطمئنُ قلوبُهم بذكرِ الله ألا بذكرِ الله تطمئنُ القلوب ] الرعد :28 ، فهذه أول الحقائق التي تطالعنا وهي أن مبدأ الإطمئنان والثبات النفسي هو ذكر الله جل وعلا واللجوء له سبحانه وتعالى ، فالقرآن هو الذكر أيضاً بأبهى صوره ، وفي المقابل فإن الإبتعاد عن الذكر الإلهي هو سبب لتغلغل اليأس والهزيمة النفسية وغير النفسية ، يقول الحق تبارك وتعالى :[ ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون ] الحشر : 19 ، فإننا أمام خيار مهم وهو أن يستمر إتصالنا مع الله سبحانه وتعالى دون انقطاع لأنه سببٌ مهم في بقاء الإطمئنان النفسي والثبات الذي من خلاله يكون الإنسان قوياً في حركته وتحقيق تطلعاته . ويقول تعالى في سياق خطابه الأعلى للمؤمنين في بدر بعد المدد الإلهي [ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ] الأنفال :10 ، وهنا نلاحظ أنه بعد أن يتمكن الإطمئنان القلبي والنفسي من المؤمن فإنه يصبح قريباً من نصر الله تعالى ، على أن الحقيقة التي يؤكدها هنا هي أنه لا نصر في واقعك أيها الإنسان سوى نصر الله لك ، وكل ماسوى حقيقة النصر الإلهي هي أوهام ( وما النصر إلا من عند الله ) بمعنى أنه من غيره تعالى لا يكون نصر لك أيها الإنسان المؤمن . إلى هنا حديثنا عن نفسية الإنسان المؤمن في صراعها وحركتها على أرض الواقع ولكن هناك مواجهات لهذه المؤمن الذي هيأه الله عبر برنامجه الذي فرضه عليه من خلال منظومة الدين من عباداتها ومعاملاتها حيث يفترض أن هذا المؤمن المهيأ للصراع بتهيئة وتنشئة إلهية وبرمجة لنظامه الحياتي قد أصبح مؤهلاً لأن يجني ثمار نشأته الإيمانية وتربيته الإسلامية في خضم صراعاته وعلى كل المستويات . - لماذا يخطئ من يبحث عن نصرٍ من غير الله تعالى ؟ نعم يخطئ من يبحث عنه من غير الله تعالى ، لأن الله سبحانه وتعالى في نظام الكون ومنظومته ، هو الواجب الذي يسبب الأسباب ويهيؤها ، طبقاً لنظام عدله ، وحكمته التي تتصرف في كل صغيرة وكبيرة في نظام الكون ، وإن كانت خلافاً لأهواء الناس ومخططاتهم ، هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى فليس لهذا الإنسان قوة تذكر إلا وهي ممنوحة له ومسلوبة عنه ، فليس المرء هو عين القوة ومصدرها ، وإنما الإنسان يُمنح هذه المنحة فيقوى على الحركة وهو جنين في الشهر الرابع في بطن أمه وسط ظلمات الرحم ، ثم تزداد وتشتد حتى تبدأ بالتراخي وتسير نحو العدم ، حيث يبدأ الإنسان في حال الإحتضار سلب القوى الممنوحة له وهذه الحقائق يذكرها القرآن في حديثه عن الإنسان ، يقول الحق تبارك وتعالى : [الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير] الروم : 54 ، نعم هذه هي المعادلة الإلهية مع الإنسان ، يمنح الله له ثم يسلب عنه ، ضمن مراحل معينة من حياة الإنسان ، على أن الذي يمنح ويسلب يمتلك قوة لا تنضب ولا تتبدل ولا تبلى بل كل قوة وحركة صادرة من تلك القوة هي امتداد لقوته وقدرته فلذلك تتأكد لنا هذه الحقيقة العظيمة وهي أنه [ لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم ] هذا الذكر الذي ورد في بعض الروايات أو الآثار أنه الإسم الأعظم ، هو سر من أسرار الله لا يعيه الكثير من الناس وإن لفظته أفواههم ، ولكنه في معادلة الصراع والحركة أمر يهيمن على الإنسان لينتقل من كونه مجرد ذكر لفظي إلى ذكر عملي لهذا الإنسان . ويقول العلامة السبزواري في منظومته : أزمةُ الأمور طراً بيده * والكلُ مستمدةٌ من مدده

فكيف يبحث الإنسان في مسيره وحركته عن قوة تمنحه النصر أياً كانت هذه القوة وأياً كان مصدرها ، فغير الله لا يعطيك نصراً لأن فاقد الشئ لا يعطيه ، إننا نثق بالله وبحكمته في إدارة نظام هذه الدنيا وإدارة أمورنا المسيرين والمخيرين فيها ، لذلك لانملك إلا أن نتوجه إليه في كل أمورنا وحياتنا وفي ختام هذا الحديث نسأله تعالى أن يمدنا بحوله وقوته إنه سميع مجيب ولاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم _ جزء من محاضرة ألقيت في شهر مارس 2011م _